يقول الروائي الإيرلندي أوسكار «يستطيع أي شخص صنع التاريخ، ولكن الرجل العظيم هو من يكتبه».
فالتاريخ يصنع بمواقف الرجال الذين يثبتون في مواجهة التحديات، وذلك لغرس القيم وتلمس المفاهيم التي ساروا عليها، ومن هؤلاء الفريق عبدالله فراج الغانم رئيس الأركان العامة الأسبق (رحمه الله تعالى)، الذي تجلت فيه الصفات القيادية ولم يخرج وصفه عن معاني الشجاعة للحروب الذي خاضها بحسب، بل كان «خاطفا للأنظار» من وعي وحدس وذكاء، ومن تشكيل وتنفيذ وتقييم للبيئة الإستراتيجية بتقدير تام.
التحق الفريق «الغانم» بالقوات المسلحة عام 1949، ورشحه رئيس الأركان الأسبق الفريق مبارك العبدالله (رحمه الله) للالتحاق بكلية ساند هيرست العسكرية الملكية في بريطانيا عام 1956 وتخرج منها في عام 1958، وكما شكل أول كتيبة لاسلكي وتدريبها بأمر من الفريق مبارك العبدالله، وتسلّم منصب قائد اللواء السادس عام 1959 وقام بتأسيسه، وفي عام 1969 عين معاونا لرئيس الأركان حتى عام 1980 عين رئيسا للأركان العامة للجيش.
يعتبر الفريق «الغانم» من الرجال الذين سطروا أسماءهم بأحرف من نور، من خلال مواقفهم المشرفة، فعلى المستوى الوطني أزمة عبدالكريم قاسم عام 1961، وعلى المستوى الإقليمي المشاركة في الحروب العربية ضد إسرائيل في عامي 1967 و1973 وكان «مساعدا لقائد القوات الكويتية»، واستنفاره للقوات المسلحة وانفتاحها على الحدود الشمالية خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية عام 1980 وكان وقتها «رئيسا للأركان».
وكما واجه الفريق «الغانم» الإرهاب وجفف منابعه، منها الاعتداء الآثم على موكب الأمير 1985 التي اتصفت قيادته مع الحدث بالهدوء التام والاتزان والثقة بالنفس وعدم الانفعال، فاتخذ القرار المناسب في وقته المناسب، فاستخدم مبدأ (عرض القوة) بتشكيلات عسكرية مختلفة، فكانت رسالة تحذير شديدة اللهجة، على كل من تسول له نفسه المساس بأمن الوطن واستقراره، فنال من هذا التصرف استحسانا من القيادة السياسية والمجتمع بأكمله.
كان «الغانم» رجلا أثيلا بقوة الدليل والحجة وفصاحة البيان والثقة، فكان مطلبا مهما للقوات الغازية عام 1990 لما عرف عنه من ميزان حقيقي، فكان رجل موقف وثبات ! أثناء التحقيق معه، لم يحد ولم يتزعزع.
اتصف فكر «الفريق الغانم» بالذكاء الإستراتيجي فكانت إسهاماته محلا للتأمل والتدبر، وكان صاحب رؤى صادقة وتنبؤ بمجريات العمل الإستراتيجي، فاستخدم الأدوات فحقق الغايات.
وكما وضع «الفريق الغانم» عاملين مهمين من عوامل النصر هما (الوقت والصبر) حيث ربط الوقت بعامل الحركة والصبر بعامل الجهد المبذول كي يحقق الأمل، وهذا ما حدث في حرب يونيو 1967 وأرض سيناء تشهد له بذلك.
وكما اتبع منهج أستاذه الفريق مبارك العبدالله من ترسيخ القواعد فأكمل ما حيث انتهى به «رئيسه» من تسليح وتعليم واحتراف وتطوير، وتناغم مع القيادة السياسية في إدارة الأزمات وتعزيز التضامن العربي.
و«للفريق الغانم» عبارات مؤثرة لا تنسى منها:
أ - عندما كنت رئيسا للأركان قدمت كل ما لدي من علم وخبرة عسكرية للقوات المسلحة للحفاظ على أمن الكويت، فقد خدمت بالجيش 45 عاما 37 عاما منها خدمة فعلية و8 سنوات حرب.
ب - العسكري يحتاج إلى الإلمام بعلوم السلاح ويجب أن يكون مثقفا ومتخصصا في الجغرافيا والتاريخ، فكلما ازداد العسكري علما ازداد عطاء، لذلك يجب أن يتزود العسكري دائما بالعلم والثقافة ويكون على اطلاع.
وكان لكاتب هذه المقالة شرف كبير في مجالسة القائد الفذ الوالد «الفريق عبدالله فراج الغانم» في بيروت عام 2012 واستمتعت بلقائه وقدم لي بعضا من النصح والإرشاد.
وفي عام 1986 ترجل القائد المبدع والإستراتيجي المبهر عن صهوة جواده بعد مسيرة حافلة بالإنجازات، فكان نموذجا للشخصية القيادية، تاركا لنا إرثا زاخرا لا يحصى ولا يعد من قرارات ودراسات واسعة النطاق والتطبيق، التي أسهمت في تطوير قواتنا المسلحة في ميدان السلم والحرب.
فهناك نجوم تظهر ونجوم تختفى، لا نعرف لماذا ظهر هؤلاء ولماذا اختفى هؤلاء، لكن ما نعرفه أن البقاء يكون للأذكى والأكثر اجتهادا.. ودمتم ودام الوطن.
[email protected]