وتكمل حكايتها صديقتنا الحاضرة الغائبة:
.. فقلت بحماس أريد البيع، بكم تساوي هذه «الاسوارة»؟
تناولها البائع بهدوء من يدي وقال: ارتاحي يا زبونتي، أتمنى أن يكون سبب بيع هذه المنقوشة الثمينة خيرا، وهو يتأملها من خلف نظارته «أميركية» الصنع التي رفعها بيده لتشكل حاجزا بين عينيه و«الأسوارة»، فقلت له بدهشة: قطعة ثمينة.. كيف؟! تفقدها جيدا أيها الصائغ، كيف ثمينة؟! وكم تساوي؟ وما النقش الذي بداخلها؟ اخبرني، كنت مصدومة ومتوترة على عكس الصائغ الذي كان ثابتا على ابتسامته وكلماته الهادئة، قال لي: نعم انها ثمينة وتعتبر من أكبر الأوزان وأثمنها رغم صغرها، ونقشت بأيدي مهرة مستبسلين في عملهم، وأنها تساوي مبلغا جيدا في حال اتخذتِ قرار بيعها، فقمت بنزعها من يده بشدة، وقلت له: لا أريد بيعها على الإطلاق.
عدت الى المنزل مسرعة كيف لهذا أن يحصل؟! كيف لصديقتي ان تهديني شيئا ثمينا كهذا؟! كيف شاءت الأقدار أن أحتفظ بشيء كنت أعتقد أنه نقش جميل طوال هذه السنين؟ وما الدافع الخفي الذي جعلني أهتم بهذه القطعة المعدنية كما كان يتراود لي؟ لماذا لم تخبرني صديقتي بالحقيقة؟! هل المحل الذي جلبت منه صديقتي هذه الهدايا يبيع الذهب الحقيقي وأخطأ مع صديقتي في البيع؟! ألف سؤال وسؤال دار في رأسي، وصلت بيتي وأنا سائرة حائرة، بعد هذه السنين وزواج صديقتي وانتقالها للعيش مع زوجها في غزة، التي تبعد عن مدينتي كثيرا، كيف أستطيع الوصول إليها لحل هذه المعضلة؟ لابد ان أصل إليها، فاتصلت على هاتفها لأبلغها بالأمر فكان مغلقا، راسلتها عن طريق الواتساب فلم تستقبل رسالتي، فقط كان آخر ظهور لها قبل شهر تقريبا، فقررت الذهاب إلى منزلهم القديم، فأخذت «الاسوارة» معي بعد أن لففتها بقماش من الحرير وكنت أبكي لأنني على يقين بأنني لن أعود أتزين بها مرة أخرى، كنت كمن يودع أبناءه المسافرين بغير عودة، ها قد وصلت منزلهم وقرعت الباب بقوة ففتحت والدتها، التي فرحت بي كثيرا وكان أجمل استقبال وأجمل محيا.
قلت لها ان ما دفعني لقطع هذه المسافة والقدوم إليك لهو أمر مهم للغاية، تتذكرين عندما رجعتم من غزة بعد خطبة عروب لابن عمها، في تلك الزيارة قدمت لي عروب بعض الهدايا ومنها «اسوارة» قالت لي إنها مطليه بالذهب حافظي عليها من الضياع، فقالت الوالدة ما هو الجديد والمهم في الأمر؟ فقلت إنها «اسوارة» ثمينة ومن الذهب الخالص ونادرة بنقشها وبريقها، فقالت: تمام أكملي كلامك، قلت لها: من يومين فقط، اكتشفت ان هذه «الاسوارة» ما هي إلا منقوشة ذهبية من عبق الماضي ومن الذهب الخالص وليست مطلية.
قامت الوالدة بصفع وجهها بكلتا يديها وصرخت ماذا؟ «الاسوارة» كانت عندك؟! وقامت بالبكاء الهيستيري وتارة تضرب فخذيها وتارة تلطم وجهها وهي تقول يا ما أنت كريم يا رب، نعم المال الحلال يعود الى اصحابه ولو طال الزمن، إنها «اسوارة» عتيقة يتبادلها أفراد عائلتنا من يد عروس إلى يد عروس أخرى على مر الأجيال، إنها من تراثنا الذي نعتز به ونتفاخر، فشكرا لله وشكرا لك يا ابنتي، فأخرجت «الاسوارة» من قطعة القماش الحريري ووضعتها بين يديها، فضمت «الاسوارة» إلى صدرها وأخذت ترتشفها تقبيلا وهي تشتم رائحتها وتقول إنها من رائحة الشهيدة «عروب» إنها من رائحة الشهيدة «عروب»! انتهت صديقتنا الحاضرة الغائبة من الكلام ولكنها استمرت تبكي بحرقة حتى أبكتنا معها جميعا، رحم الله الشهيدة عروب، وجميع الشهداء، والعزة لأبطال غزة.
استشهدت صاحبة «الاسوارة» وبقيت «الاسوارة» شامخة بيد الوالدة.