أعدت قبل أيام قراءة رواية «الطاعون»، رائعة الفيلسوف والأديب الفرنسي الوجودي الكبير ألبير كامو والتي حاز عليها جائزة نوبل للأدب عام 1957.
وياللعجب من عمق هذا الرجل وإبداعه ليس في تصوير المعاناة فقط، وإنما في نظرته الشمولية لأبعاد الوباء وعلاقته بالنزعة الفردية التي هيمنت على الحضارة الغربية، وتأكيده أن نجاة البشرية تكمن في التواصل والتضامن الاجتماعي، لا في الأنانية والجشع.
***
كامو يتحدث في الرواية عن مدينة وهران الجزائرية، وهي رمز للمدن الأوروبية كما سيتبين من مسار الرواية.
يقول «هناك طريقة سهلة للتعرف على مدينة ما، وهي أن نعرف كيف يشتغل فيها سكانها وكيف يحبون وكيف يموتون».
ثم يصف وهران ـ وهو يقصد حتما كل المدن الغربية ـ بأن «أهلها يعملون كثيرا من أجل الثراء، ويوجهون عنايتهم للملذات، فهم يحبون النساء والسينما والاستحمام في البحر، ورغبات شبابها عنيفة وعابرة».
وهو هنا ينتقد النزعة الفردية في هذه الحضارة، القائمة على الجشع والأنانية وعدم الاكتراث للآخرين، ثم يظهر خطر هذا كله بعد أن تصاب المدينة بالطاعون، وكم تبدو الرواية عجيبة في أحداثها كأنه يتحدث عن حالنا اليوم مع انتشار وباء «كورونا»!
يروي كامو كيف تصرفت السلطة في البداية بلا مبالاة من ظهور جرذ هنا ونفوق عدد من الجرذان هناك، ثم يستمر في نقد النزعة الفردية من خلال شخصيتي الطبيب «برنار ريو» والغريب «جان تارو»، اللذان بذلا جهودا كبيرة لحث الناس على التطوع لحماية المدينة من الوباء القاتل.. إلا أن الطاعون كان قد استشرى، وبدأ يحصد الأرواح بلا تمييز، أطفالا وشيوخا، رجالا ونساء، حتى أصبح مقتل الرجل مثل قتل الذباب، والجثث ترمى في المحارق بالأكوام!
***
ألبير كامو في رواية «الطاعون» يطرح الكثير من المسائل المهمة، منها إمكانية تصور المعاناة كتجربة إنسانية مشتركة لا كعبء فردي خاص، وهذا ما نلاحظه اليوم مع وباء كورونا الجديد، حيث أصبحت المعاناة عامة ومشتركة، والرعب صار عالميا وواحدا، فكل فرد فينا يشعر اليوم بأن حياته مهددة بالخطر، وحياة الآخرين كذلك بنفس الدرجة، يخرج أحدنا ليشتري كيس خبز وهو لا يعرف إن كان سيعود حاملا للفيروس والموت أم لا!
كما يناقش كامو قضية أخلاقية مهمة تتمثل في مسؤولية الانسان عن بقية البشر، والتشابك الغريب بين السعادة الفردية وبين الالتزام الأخلاقي تجاه الآخرين، ويصور كامو كيف أن من يسهمون في تخفيف المعاناة عن غيرهم، هم أكثر الناس سعادة وراحة، بينما الأشرار هم الأنانيون الذين لا ينظرون للوباء على أنه خطر مشترك.
ومن الأفكار العميقة التي يطرحها كامو في «الطاعون» فكرة تتعلق بالنظام الاجتماعي وكيف تجعله الكوارث ينقلب رأسا على عقب، فيصبح التفكير والتركيز على اللحظة الحالية، (هنا والآن) فحسب، إذ تجبرنا حقيقة حضور الموت واقترابه على نطاق واسع، على تركيز اهتمام كل واحد منا على متطلبات حياته اليومية، والبقاء على قيد الحياة، الذي يصبح الهدف الأهم، وهنا تتجلى روعة وعمق ألبير كامو حين يربط كل ذلك بقيمة وأهمية التضامن الاجتماعي، فالنجاة مرهونة بالتعاون والعمل المشترك ومساعدة بعضنا البعض.
وربما لا نحتاج الى ذكاء خاص لندرك ما أصاب دولا متقدمة وغنية اليوم من هلع وانهيار نتيجة «النزعة الفردية»، في مقابل صمود دول صغيرة وبإمكانات متواضعة بسبب التضامن الاجتماعي.
[email protected]