حضرت جنازة زوجة أحد الأصدقاء، ورأيت كيف تم إنزالها بحفرة صغيرة، عميقة، مظلمة، ضيقة، وبعد أن وضعت باللحد وضع فوقها طابوق من الاسمنت رمادي اللون وسدت مسامه بالتراب الممزوج بالماء، وتسارع بعد ذلك كل من هم حول القبر بإهالة التراب على هذه الحفرة للانتهاء من مراسم الدفن.
كنت واقفا وبجانبي أحد الأصدقاء، التفت ناحيتي ورأى الدموع تنساب على خدي منسلة من تحت نظارتي السوداء، وقف مدهوشا وهمس بأذني وقال: لماذا تبكي؟ فالميتة لا تربطك بها صلة أو قرابة.
ما الذي أبكى القلب وأدمع العين، لمنظر يتكرر كل يوم عشرات المرات، ما الذي يثير الأشجان؟، ويحرك المشاعر؟، ويعمل الفكر؟، حينما تقف على حافة القبر، ما الذي يخطر بالذهن؟ ويطرأ على البال؟، وأنت تشاهد المكان الذي ستؤول إليه وتكون فيه «لا محالة».
لماذا لا أبكي؟ وأنا أرى هذا الجسد الذي كم تعبنا لراحته، وسهرنا للعناية به، وبذلنا الغالي والنفيس للحفاظ عليه، يلف بخرقة بيضاء، ويرمى بحفرة عميقة، ويهال عليه التراب، ويذهب عنه الأحباب، ويترك بالعراء وحيدا من غير أنيس أو جليس.
حديثي سيكون عن مشاعر مختلطة، وأحاسيس متباينة، وتفكر عميق، لمكان لا يوجد منه ولا عنه فكاك أو مفر، القبر هو آخر منازل الدنيا وأول منازل الآخرة، القبر كما قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت منظرا قط إلا والقبر أفظع منه».
سترجع الروح إلى الجسد، وستدب الحياة فيه مرة أخرى، بمكان موحش، مقفر، ضيق، مظلم. إلا أن يتدارك الله هذا الجسد وهذه الروح برحمته، القبر لا محالة سيسكن، ولا محالة سيدخل، البر والفاجر، المؤمن والكافر، الزاهد والماجن، هو كأس كلنا سيتجرعه ويذوقه.
لماذا لا نبكي؟! ونحن لا نعلم متى؟ وأين؟ وكيف سيكون الرحيل؟ لو علم متى لأحسن الاستعداد، ولو علم أين لأحسن الاختيار، ولو علم كيف لتغير الحال. الموت لا يفرق بين غني وفقير، ولا بين رفيع أو وضيع، ولا بين ذكر وأنثى.
الموت يأتي للمصلي بالمحراب، ويأتي للفاجر بدور الخنا، الموت يأتي للسياسي بالمجالس النيابية، ويأتي للجمهور على المدرجات الرياضية، الموت مسطرة وطريق ودرب كلنا سيسير عليه في يوم ما.
القبر التفكر فيه يزيغ العقل، ويذهل الذهن، وينغص متع الدنيا وملذاتها.
القبر هو الاختبار الحقيقي لحقيقتك، والمكان المعبر لمكانتك، وهو المنزل المناسب لمنزلتك، حينما توسد بالقبر لن تنفعك الألقاب الرسمية، ولا المسميات الوظيفية، ولا مكانتك الاجتماعية، بالقبر هناك «عملك» وما قدمت، و«مالك» وما أنفقت، «وذريتك» وما ربيت، فعن أنس عن رسول الله ﷺ قال: «يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد: يرجع أهله وماله، ويبقى عمله». متفق عليه.
لماذا أبكي؟! دمع العين لا يتحكم به، وألم القلب لا سيطرة عليه، فدموع العين دليل على ألم القلب، وتفطر الفؤاد، على خروج روح، وتوسيد جسد، وهل تراب، على فتاة بريعان الشباب، حتى لو كنت لا أعرفها.
[email protected]