أصيب صديق لي بحادث مروع كاد يفقد حياته بسببه، فالجمجمة قد شرخت، والأضلاع كسرت، والرئة تضررت، ودخل في غيبوبة كاملة لم يفق منها إلا بعد فترة طويلة. زرته بالمستشفى مرات عديدة، وجلست عند رأسه وحادثته فكان الحديث من طرف واحد، وسألت عن أحواله فكان الجواب الصمت، والصمت كما هو معروف أبلغ إجابة.
***
أقعد المرض قريبا لي فترة طويلة، فلازم الفراش سنوات عديدة، فتغيرت ملامحه، وتبدلت أوصافه، وهزل جسمه، فأصبح لا يستطيع الكلام، ولا الرد، نزوره بين الفينة والأخرى، نتحدث بحضرته، فنجد أن عينيه شاخصة، وآهاته حائرة، فلا تدري أهو يسمع ما تقول، أو يفهم ما يقال.
***
زيارة المرضى مقصودة لذاتها، أنت بزيارتك للمريض تقدم جزءا من حقه عليك، الصداقات والعلاقات لا تقاس برد فعل الطرف الآخر، حين يمتنع الطرف الآخر عن الرد لمانع يردعه، أو نازلة حلت به، على الطرف الأول أن يحفظ الود ويصون العهد، فالعلاقات الوثيقة غير مبنية على التبادلية.
***
زيارتك للمريض المقعد، وللعليل الموسد، الهدف منها إحياء حياتك، وإنعاش روحك، ولملمة شتاتك، فمن تحادثه كانت بينكم محادثات كثيرة، وقصص عديدة، ومواقف لا تنسى، ويجب ألا تمحى حتى وإن كان لا يعرفك الآن، ولا يعلم بزيارتك في الوقت الحاضر، ولا يستشعر قدومك له، فيكفي أنك تعرفه حق المعرفة.
***
قصة شاهدت تفاصيل أحداثها عبر برامج التواصل الاجتماعي لابن يرعى أباه الذي فقد الذاكرة لسنوات عديدة، فكان مما قاله للمذيع الذي يقابله: هو لا يعرفني لكنني أعرفه، أعرف أنه أبي الذي قدم لي أجمل سنوات حياته لتكون حياتي أجمل، وسهر على راحتي لتكون حياتي مريحة، وتعب لأجل أن يبعد التعب عني.
***
يكفي أنني أعرفه، جملة تهز الأبدان، وتهيض الوجدان، وتحرك الجوارح، وترقق القلب، وتنزل الدمعة، وتسكب العبرة، «يكفي أنني أعرفه».. التزام أخلاقي، وإلزام لفظي، وتعبير عن الصداقة وقوة العلاقة.
[email protected]