هي الفنانة التي عشقتها الكوميديا في المسرح والدراما والبرامج والأوبريتات التلفزيونية، وهي الفنانة التي تعرشت سماء النجوم في الكويت والخليج العربي من أول أعمالها حتى آخرها، وهي الفنانة التي انثالت وانهمرت عليها عروض المنتجين والمخرجين في الكويت للعمل معهم في المسرح وفي الدراما التلفزيونية بشكل أكثر تحديدا، وهي الفنانة التي أسعفها الحظ وفي وقت مبكر لأن تكون مؤدية ونجمة بجانب كل نجوم المسرح والدراما التلفزيونية في الكويت، وهي الفنانة التي لم يعقها ارتداؤها للحجاب عن مواصلة العمل في مجال المسرح والدراما وبنفس الروح التي عهدها جمهورها عليه، وهي الفنانة التي ظلت متفردة في نجوميتها حتى في مشاركاتها الثنائية مع الفنان الكوميدي النجم داود حسين.
هي انتصار الشراح، رحمة الله عليها وغفرانه، هذه الفنانة التي ألهبت خشبة المسرح وحماس الجمهور في الكويت والخليج العربي بحضورها الأدائي الكوميدي الأول لها في مسرحية «باي باي لندن» عام 1981، وهنا لابد أن يرجع الفضل لظهورها الأول المميز على الصعيد الأدائي للفنان المخرج التونسي المنصف السويسي الذي استطاع أن يحفز كل ممكنات الروح الكوميدية الهائلة فيها للتجلي وبثقة كبيرة أمام كبار نجوم المسرح الكوميدي في الكويت من أمثال الفنانين الراحلين عبدالحسين عبدالرضا وغانم الصالح والفنانة الراحلة مريم الغضبان والفنان محمد جابر والفنانة القديرة هيفاء عادل.
في هذه المسرحية لم تكن الشراح شريكا إضافيا لهؤلاء النجوم بقدر ما كانت ندا حقيقيا لازما لهم في الأداء، كما لو أنها اختزلت تجربتهم الكوميدية الطويلة في دورها الأول معهم، بل أضف إلى ذلك قدرتها على التميز الأدائي والارتجال الكوميدي، كثيرا ما سرقت من وهج حضور الخبرة الأدائية لدى معلميها ومن سبقوها في مضمار الكوميديا في المسرح، وأصبحت كما لو أنها هي من تملك الخشبة وتتحكم في لعبة الحدث فيها في كثير من الأحيان.
ولعلني أوقن بأن المخرج السويسي في اختيار الفنانة انتصار الشراح ابنة للفنانة الكوميدية الراحلة مريم الغضبان في هذه المسرحية، خاصة مع تقارب الحجم والشكل فيما بينهما، كان ينبئ بامتداد ألق النجمة الشبيهة لها في المسرح الكوميدي الكويتي، ولأن السويسي يتميز بالتركيز على الأداء المسرحي كما عرفناه ونحن طلبة على مقاعد الدراسة بالمعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت عام 1978، فإنه تمكن من استثمار تمطيط اللهجة الدارجة لدى الفنانة انتصار الشراح وإسباغها بالطريقة نفسها على اللغة الإنجليزية بجانب جعلها عائقا أدائيا لديها مكنها من الخلاص منه بالعودة إلى اللهجة الكويتية، محدثا بذلك مواقف كوميدية لا نهاية لها تبعث على ضحك تضج بها قاعة المشاهدة، وهو الأمر الذي أفسح مجالا أمام الفنانة انتصار لأن تمارس أداء الدور بوصفه حالة من العشق تدفعها للخروج منه بارتجالات لا أول لها ولا آخر، ولتصبح منافسة كوميدية قوية في هذا العرض.
لقد وضعها المنصف السويسي، رحمة الله عليه، من أول دور لها في مختبر التجربة الكوميدية الصعبة إدراكا منه بهذه الممكنات الأدائية الكوميدية الفريدة لديها، وإيمانا منه بأن هذه الطاقة الفريدة سيكون لها حضور لافت في مسرحيات كوميدية كثيرة بعد أدائها لهذا الدور بجانب نجوم الكوميديا في المسرح الكويتي، وهكذا تنطلق الفنانة انتصار الشراح بثقة النجم في فضاءات الأداء المسرحي الكوميدي والدراما التلفزيونية، ولتشكل بذلك الانطلاق حضورا تجلى في أعمالها الثنائية مع الفنان النجم داود حسين الذي أفسح لها المجال للارتجال الكوميدي، مستثمرا صناعة المخرج السويسي لإمكاناتها الأدائية في هذا المجال دون أن يأتي معها بجديد غير ما تملكه من حس كوميدي عفوي قد يألفه المتفرج أو المشاهد.
ونلحظ نضج الأداء المسرحي بمختلف مجالاته ومدارسه وخاصة الواقعية، بعد التحاق الشراح بالمعهد العالي للفنون المسرحية وذلك بعد مشاركتها في مسرحية «باي باي لندن» مباشرة، وهي مشورة المخرج السويسي لها بامتياز ودون أدنى شك، خاصة وأنها صنيعة جهده الإخراجي، ولتصبح الشراح ابنة الأداء الأكاديمي والشعبي في آن، فهي إذ تتلقى الدراسة الأكاديمية في المعهد فإنها في الوقت نفسه تزاول نشاطها المسرحي خارج المعهد مع الفرق المسرحية الأهلية والخاصة، لتراكم بذلك خبرة تجعل من حياتها المسرحية حالة مهيأة للتمسرح في المسرح باستمرار، كحال الفنانتين الكويتيتين زميلتي الدراسة بالمعهد، سعاد عبدالله ومريم الصالح.
ورصيد الفنانة انتصار الشراح من العروض المسرحية الكوميدية كبير بلا شك، إلا أن أغلب هذه العروض اتسمت بكوميديا الموقف، وارتبطت بقضايا المجتمع الكويتي والخليجي، ولم تذهب، كما ذهب البعض الكثير، إلى عروض الإسفاف والابتذال، بل إنها حاولت في عروضها المسرحية الأخيرة الهروب من المسرحيات التي تتجاهل أية مسؤولية اجتماعية أو فكرية، وأصبحت مؤيدة للجهد الشبابي في المسرح المغاير، وهذا ما لمسته منها حقا في ذات مسرحية لفرقة المسرح الشعبي قدمت ضمن مهرجان الفرق المسرحية الكويتية السنوي، إذ كانت رحمة الله عليها بجواري في قاعة المشاهدين، وكانت متحفزة لجهودهم بالرغم من أن المسرحية ليست بمزاجها الكوميدي الذي اعتادت واعتدنا عليه، بل إن الأمر وصل بها في مسرحية، كما أعتقد (انتخبوا أم علي) إلى أن تتحول كتلة جريئة من المطالب الشعبية، الأمر الذي تحول المسرح معه إلى منبر خطابي.
كما وتعتبر الفنانة النجمة الراحلة انتصار الشراح واحدة من أهم من اشتغل أداء في مسرح الطفل، وكانت بقدر ما هي مقربة من قلوب جماهيرها الكبار في مسرح الكبار فإنها أصبحت مقربة أكثر لدى الكبار والأطفال معا في مسرح الطفل، ولا يمكن أن أنسى دورها في مسرحية سندريلا، تأليف الكاتب المصري السيد حافظ وإخراج الفنان منصور المنصور، إنتاج مؤسسة البدر، والتي قدمت في البحرين أيضا عام 1983 على خشبة النادي الأهلي، إذ كان حضورها في دور فهيمة مثيرا للضحك بقدر ما كان مثيرا للحقد، خاصة مع هيئة الفنانة انتصار وماكياجها الفاقع المضحك وأزيائها الغريبة، وكان الأطفال الحضور منشدين إليها كثيرا وكما لو أنها المحور الرئيس في العرض.
وهي إذ تعزف على أوتار مسرح الطفل، فإنها تنشد المتعة له ومعه ومع الكبار أيضا عبر عروض مسرحيات الرعب، وهذا دليل واضح على أن الفنانة الشراح جوكر مهم في المسرح الكويتي لا غنى لمنتجيه عنه في عروضه، ومن بين هذه العروض (البيت المسكون، صرخة رعب، ينانوة الفريج، أشباح أم علي، مصاص الدماء، رعب في فيلكا، زومبي، صرخة الأشباح، ينانوة جليعه، المومياء). وتكمن فرادة ونجومية الفنانة انتصار الشراح في قدرتها على أداء كل هذه الفنون وبتميز، وتميزها بتواضع قل نظيره في أوساطنا الفنية اليوم، وإيمانها بقناعاتها الفنية الذاتية قبل قناعات السوق ومنتجيه، لذا ظل المسرح في شوق إليها كما هي الدراما التلفزيونية أيضا، وسنظل نحن محبيها من الجمهور نحبها ونعشق إنسانيتها وكما لو أنها اللحظة بجوارنا، فمن أنتج مثل هذه الروح الشفافة السخية في فنه لا يمكن أن ينسى وأن يموت، فهو حي ما بقيت هذه الروح في تجلياتها الفنية السامية.
بقلم: يوسف الحمدان
مملكة البحرين