انعقد في بغداد مؤتمر دول الجوار العراقي على «مستوى القمة». وهو الأول من نوعه منذ العام 2003 ومهم في أبعاده ودلالاته ويعد إنجازا ومكسبا لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بالدرجة الأولى. ولكن الحدث الأفغاني الذي قفز الى صدارة الأحداث العالمية حجب الحدث العراقي وخفف من وهجه، وأضاف بندا جديدا الى جدول أعمال القمة هو بند «طالبان» والتطرف والإرهاب.
رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي هو من يقف وراء هذا المؤتمر فكرة وتخطيطا وإعدادا، وهو من وجه الدعوات المنتقاة بعناية، وشملت كلا من إيران والسعودية والكويت وقطر والأردن وتركيا ومصر والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. الملاحظ في هذه الدعوات أنها شملت دولا بعيدة عن العراق مثل بريطانيا وفرنسا ومصر، وأنها استثنت الدولة الأقرب الى العراق وهي سورية التي لها حدود مشتركة مع العراق وخاضا معا معارك ضد «داعش» ومعركة تحرير «البوكمال» الحدودية، وعلى أرضهما تتواجد إيران بكل ثقلها الأمني والاقتصادي. صحيح أن أيا من القوى السياسية التي تخاصم الكاظمي لم تعترض على القمة، ربما لأنها تشعر أن من الصعب بالنسبة لها إيجاد مبررات للاعتراض، لكن الثغرة التي وجدتها القوى المعارضة للكاظمي، ورأت أن بإمكانها النفاذ منها لتوجيه انتقادات للقمة هي الإحجام عن دعوة سورية إلى القمة. وكان جوهر الانتقاد الامتناع عن دولة مجاورة للعراق، بينما تدعى فرنسا وقطر، وهما دولتان ليستا مجاورتين للعراق. ولما قامت انتقادات في العراق ضد الكاظمي لأنه استثنى سورية، اضطر الكاظمي الى إيفاد رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي فالح الفياض الى دمشق كموفد خاص الى الرئيس الأسد لتوضيح سبب عدم دعوته الى القمة (وجود فيتو أميركي وعدم رغبة أو عدم قدرة قادة دول على اللقاء مع الأسد) وللتأكيد له أن هذا الموضوع لا يؤثر على العلاقة الثنائية القوية في مجالي مكافحة الإرهاب والتنسيق الأمني خصوصا.
قبيل أحداث أفغانستان وبعد تنصيب إبراهيم رئيسي رئيسا لإيران، جاءت دعوة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى «مؤتمر دول الجوار الإقليمي» في بغداد، بمنزلة ضربة معلم في وقت حرج. فالكاظمي يخوض في الداخل العراقي حربا مع عدة قوى في آن واحد. فبالنسبة للوجود الأميركي يخوض رئيس الوزراء معركة تبدو أنها مفتوحة ضد الفصائل المسلحة. وعلى مستوى المواجهة والتعايش مع الكتل السياسية، فإن الكاظمي وجد نفسه بلا معين بعدما بدأ أولى خطوات الإصلاح، بدءا من تشكيل لجنة لمكافحة الفساد، التي أراد الجميع ألا تقترب منهم. وعلى صعيد الانتخابات، ومع أنه حدد موعدها وأكمل كل مستلزمات تنظيمها، فإن خصومه يشكون في دوافعه على الرغم من أنه ليس مرشحا لها. أما في الخارج، فالعكس هو الصحيح، إذ إن الأوراق التي يلعب بها الكاظمي تبدو كلها لصالحه. فهو، بداية، تمكن من تأسيس علاقات متوازنة مع واشنطن، إذ إنه زار خلال سنة واحدة من حكمه البيت الأبيض مرتين، وفي عهدين مختلفين (عهدي الرئيسين الجمهوري دونالد ترامب، والديمقراطي جو بايدن). كذلك، فإن علاقة رئيس الوزراء العراقي بدول المنطقة بدت سالكة وجيدة إلى حد كبير، بلغ المستوى الذي جعله مؤهلا لنقل رسائل ولعب دور الوساطات. والآن، وهو على أبواب نهاية عهده، فيما لو أجريت الانتخابات وبعيدا عما إذا كان سيجدد له مع أن فرصه جيدة فإن دعوته إلى مؤتمر القمة في بغداد، وتفاعل الدول المجاورة والأخرى الإقليمية معه جعلاه في وضع مريح حيال خصومه. ذلك أنه، في نهاية المطاف، يبحث العراق الآن عن الاستقرار، وأحد أوجه هذا الاستقرار هي مشاركة دول الجوار الإقليمي في القمة، التي لا خلاف على أنها حدث مهم للغاية.
الدوافع والأسباب وراء هذه القمة والأهداف التي يسعى الكاظمي الى تحقيقها من خلال هذا المؤتمر الإقليمي الدولي في بغداد، يمكن اختصارها في ثلاث نقاط أساسية:
1 ـ تعزيز دوره وشعبيته ومكانته داخل العراق عشية الانتخابات المقررة في أكتوبر التي لا يخوضها الكاظمي شخصيا ولكنه يأمل بأن تأتي بتحالف يؤيد استمراره رئيسا للحكومة بعد الانتخابات لولاية ثانية كاملة.
هذه القمة هي نوع من «عرض القوة» التي قدمها الكاظمي لاستقطاب التأييد الداخلي السياسي والشعبي، ولإثبات أنه رقم صعب في المعادلة الداخلية وصاحب شبكة علاقات خارجية واسعة ومدعوم دوليا. مثل هذه العروض قدمها في علاقته الوثيقة مع أميركا وزيارته لمرتين الى البيت الأبيض وفي عهدي ترامب وبايدن، وفي إبرام اتفاق حول الانسحاب الأميركي من العراق وتفكيك القواعد العسكرية والإبقاء على وجود لمستشارين ومدربين. وهذا الانسحاب هو مطلب للفصائل الموالية لإيران، والتي رفعت شعار الانسحاب الأميركي بعد اغتيال قاسم سليماني. ثم أكمل الكاظمي عروضه بأن عقد لقاءات مع قادة السعودية ومصر والأردن، ومن دون أن يؤثر ذلك سلبا على علاقته مع إيران.
2 ـ إعادة رسم دور العراق في المنطقة وعلى أساس أنه دور وسطي متوازن. من جهة، العراق هو جسر حوار وقناة تواصل بين أميركا وإيران على أرض العراق.
من جهة ثانية، العراق هو خارج المحاور والصراعات الإقليمية، ولديه علاقات جيدة مع القوى الإقليمية الثلاث الكبرى: إيران وتركيا والسعودية، وباستطاعته القيام بدور الوسيط والتقريب بين دول متخاصمة. العراق ساحة حوار وتلاق وليس ساحة صراع.
وفي هذا السياق، التأكيد على العمق العربي للعراق كانتماء جغرافي وتاريخي، وأنه ليس تابعا لإيران ودائرا في فلكها. ما يحاوله الكاظمي منذ تسلمه رئاسة الحكومة هو كسر الهيمنة الإيرانية على العراق والحد من تحكم وسيطرة إيران عليه. وهذا ما نفذه بإقامة علاقات مع مجموعتين عربيتين: الأولى تضم دول الخليج وعلى رأسها السعودية، والثانية تجمعه مع مصر والأردن، ومع سورية ولبنان استطرادا، مع مراعاة القيود المفروضة على العلاقة مع حكومة دمشق، ومع إعطاء أهمية خاصة للبنان بسبب وجود حزب الله. لا ريب في أن الكاظمي أكثر ميلا للابتعاد عن المحور الذي تقوده إيران، ولكنه يعلم في الوقت نفسه أن دون رغبته هذه الكثير من الكوابح، نظرا لما لإيران من علاقات متداخلة في هذا البلد، والمصالح الكبيرة المشتركة بين الدولتين. ولذا، فهو يسعى الى استحداث موقع للعراق يعكس رغبته في «وسطية» ما في الاستقطاب المحوري الحاد الذي تشهده المنطقة، بما يفيد تموضعه السياسي في الداخل العراقي، كوافد جديد الى الساحة السياسية أوصلته ظروف خاصة الى منصبه، كحل وسط بين تيارين عريضين تنقسم بينهما الساحة العراقية. ويعتبر الكاظمي المحادثات السعودية ـ الإيرانية التي جرت برعايته في بغداد نموذجا يبنى عليه، وكذلك القمة التي استضاف فيها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي والملك الأردني عبدالله الثاني في نهاية يونيو الماضي.
3 ـ إطلاق وتنفيذ ورشة النهوض الاقتصادي والاجتماعي في العراق الذي يعاني من أزمات مالية واقتصادية وفساد وتراجع مستوى الخدمات والمرافق العامة والبنى التحتية، والذي يعاني من غياب ومقاطعة الدول المجاورة والشركات
والمؤسسات الاستثمارية له، بسبب عدم الاستقرار السياسي والأمني وإشكالية الوجود الإيراني الذي بات مستندا الى قوى شيعية وشبكة مصالح وامتدادات داخلية.
هذا الهدف الاقتصادي هو في أساس تقوية العلاقة مع السعودية لاستقدام استثمارات في مشاريع كبرى. وهو في أساس العلاقة الجيدة للكاظمي مع فرنسا والرئيس ماكرون الذي كان أول من أكد حضوره قمة بغداد. فمقابل انحسار المشاريع والطموحات الفرنسية في إيران، يريد ماكرون أن يعوض في العراق عبر استثمارات ومشاريع كبرى. ويطالب الكاظمي بتوفير البيئة الملائمة والحاضنة للاستثمارات والمشاريع الاقتصادية.
والنتائج لمؤتمر كهذا التي يعتد بها هي التي تعود بالفائدة على العراق ودوره ومكانته وعلاقاته الإقليمية، وعلى رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي. ولكن هذا المؤتمر لا يغير في واقع المنطقة وتوازناتها، وليس له أثر يذكر على أزماتها ومجريات الأحداث، ونتائجه سياسية معنوية بالدرجة الأولى.