قوبل الانسحاب الأميركي من أفغانستان، كقرار استراتيجي في الدوافع والأسباب وخطأ تكتيكي في طريقة التنفيذ، بردود فعل واسعة في العالم برز من بينها:
1 - ردة الفعل الأوروبية التي انتقدت بشدة الانسحاب الأميركي المهين من أفغانستان، والذي بدا أشبه بـ«الهروب». وساد لدى الأوروبيين (خصوصا ألمانيا وفرنسا) شعور بالإحباط بسبب الأداء الأميركي الذي وضعهم أمام الأمر الواقع، وبسبب الفشل الذريع الذي أصاب الأجهزة الاستخباراتية الأميركية وسوء تقديرها للأوضاع في أفغانستان، ومدى قدرة النظام السابق على الصمود في وجه «طالبان». وبعدما كان الأوروبيون استبشروا خيرا بوصول بايدن الى البيت الأبيض، وهو الذي سوق لنظرية عودة أميركا إلى الساحة الدولية وإلى التشاور والتنسيق مع الحلفاء، باتوا الآن حذرين وقلقين من أن تستنسخ واشنطن النهج نفسه والانسحاب من مناطق أخرى مثل سورية والعراق وأفريقيا ووضعهم مرة أخرى أمام أمر واقع جديد.
2 - ردة الفعل الإيرانية التي هللت للانسحاب الأميركي من أفغانستان، وحيث بدا الإيرانيون مزهوين ومرتاحين لهذا التطور الاستراتيجي الذي قرأوا فيه هزيمة لأميركا، واستطرادا، قرأوا فيه انتصارا لإيران، متوقعين أن تكون الخطوة التالية الانسحاب من العراق وسورية، وهذا ما يصب تماما في استراتيجيتهم القائمة على إبعاد الولايات المتحدة عن المنطقة وفي تنفيذ قرارهم الذي اتخذوه بعد اغتيال اللواء قاسم سليماني بإخراج القوات الأميركية من العراق. وهذا ما باشروا به فعلا عبر وسائل سياسية (تصويت البرلمان العراقي على سحب القوات الأميركية) وضغوط أمنية (استهداف القواعد والمصالح الأميركية)، ما أدى الى عودة أجواء التوتر بين إيران والولايات المتحدة على أرض العراق بعد هدوء نسبي ساد في أعقاب وصول بايدن الى البيت الأبيض. والسؤال: هل تنسحب أميركا فعلا من العراق انسحابا كاملا ومن طرف واحد على غرار انسحابها من أفغانستان؟! أما حصر السؤال بالعراق من دون سورية فيعود الى سبب بسيط ومهم وهو أن الوجود الأميركي في سورية مرتبط بالوجود في العراق، ومن دون الوجود العسكري الأميركي في العراق لا يمكن أن يكون هناك وجود عسكري أميركي في شرق سورية، إذ إن جميع الإمدادات تأتي من كردستان العراق.
يستبعد خبراء ومحللون أميركيون انسحابا أميركيا من العراق على شاكلة الانسحاب من أفغانستان للأسباب التالية:
1 - اختلاف الموقف الداخلي الأميركي لجهة أن الانسحاب من أفغانستان كان يحظى بغطاء سياسي سبق أن وفره الرئيس السابق دونالد ترامب عندما أبرم اتفاقية الانسحاب مع «طالبان»، وكان يحظى بتأييد واسع من الكونغرس وأيضا من الرأي العام الأميركي، في حين أن هناك معارضة داخلية للانسحاب من العراق، خصوصا من جانب الجمهوريين الذين يذهبون إلى حد اعتبار أن التهديد المتزايد في هذين البلدين، بما في ذلك سلسلة من هجمات الطائرات من دون طيار، يعكس الضغط الذي تمارسه طهران على واشنطن من أجل سحب قواتها من العراق. ويعتبر المشرعون الجمهوريون أن إنهاء المهمة القتالية فكرة سيئة، وأنه ليس الوقت المناسب للولايات المتحدة، أو العراق، للتظاهر بأن المهمة المشتركة قد انتهت. ولا يمكن التسامح مع استمرار هجوم الميليشيات المدعومة من إيران على الأفراد الأميركيين في العراق. وعلى الرئيس بايدن أن يطرح استراتيجية حقيقية لردع هذه الهجمات وإنهائها.
2 - الاختلاف في الوضع الأمني العسكري بين أفغانستان والعراق. في أفغانستان القوات الأميركية غير قادرة على احتواء قوة «طالبان» وإدارة بايدن كانت أمام خيارين: إما إلغاء اتفاقية الانسحاب التي أبرمها ترامب مع «طالبان»، ما يعني انتهاء وقف النار واستئناف القتال وإرسال آلاف جديدة من الجنود الأميركيين إلى أفغانستان.. وإما الانسحاب الكامل والتركيز على التهديدات الناشئة من الصين وروسيا. أما في العراق، فإن الوضع الميداني لا يحتاج إلى تصعيد وإمكانات كبيرة. فمن جهة لا تواجه القوات الأميركية من الميليشيات العراقية الموالية لإيران ما كانت تواجهه من خطر وتهديد من قبل حركة «طالبان». ومن جهة ثانية، هناك قوى عراقية، كردية وسنية وحتى شيعية، تريد بقاء القوات الأميركية، إضافة الى وجود اتفاقية بين العراق والولايات المتحدة موقعة أيام باراك أوباما وترعى الوجود الأميركي وتحدد إطاره الاستراتيجي.
3 - الحاجة إلى البقاء في سورية، وتحديدا في شرق سورية (الحسكة والقامشلي وفي مناطق حدودية محاذية للعراق كقاعدة التنف). وهذه الحاجة يحكمها سببان أساسيان: مراعاة مصلحة وأمن إسرائيل القلقة من الوجود الإيراني في سورية وفي تمدده شرقا وجنوبا/ منع إيران وروسيا من السيطرة على شرق سورية، حيث الأكراد الحلفاء والثروات الطبيعية. وهذا هدف جيو استراتيجي، إذا تخلت عنه أميركا فإنها تمنح مكسبا استراتيجيا لإيران وروسيا.
4 - بعث رسالة إلى الحلفاء في المنطقة وفي أوروبا بأن أميركا مستمرة في حربها على الإرهاب، وخصوصا ضد «داعش» والتنظيمات المتطرفة الأخرى التي مازال لها وجود في العراق وسورية. ورسالة التطمين هذه مهمة الآن لتبديد المخاوف التي سادت بعد الانسحاب من أفغانستان من صعود جديد للجماعات الإرهابية، وتبديد الانطباع الناشئ بأن إدارة بايدن تتجاهل الإرهاب.