خلال 16 عاما من حكم المستشارة أنجيلا ميركل التي عاصرت أربعة رؤساء أميركيين، اكتسبت ألمانيا الكثير من القوة والنفوذ اللذين تخطيا حدود القارة الأوروبية، شرقا وغربا، فرسخت مكانتها في القارة الأوروبية وتحولت إلى قوة اقتصادية وسياسية بارزة، رسمت خلالها معالم جيوسياسية جديدة تسيدت بها عرش التاج الأوروبي، وأضحت صانع قراره الأوحد واللاعب الأكثر تأثيرا فيه.
وعلى الرغم من إرث ميركل التي تستعد لحزم أمتعتها للمغادرة، واعتباره خارطة طريق استراتيجية للدولة في علاقاتها الخارجية وسياساتها الداخلية لعقود من الزمن، فإن الاختلاف النسبي في توجهات الأحزاب المعارضة يهدد بحالة من الغموض الذي لن تتكشف معالمه خلال وقت قصير، واحتمالية تحييد ألمانيا عن المسار الذي أنتجته خلال الفترة الماضية، وهي من كانت بمنزلة القائد الروحي للاتحاد الأوروبي.
الاحد المقبل، تشهد ألمانيا انتخابات برلمانية مختلفة عن كل الاستحقاقات الانتخابية التي شهدتها طوال السنوات الـ 16 الماضية، والسبب خروج أنجيلا ميركل من الحياة السياسية، ما يعني إفساح المجال أمام مختلف الاحتمالات، وفتح الباب أمام خيارات غير مألوفة.
ويصوت الألمان لانتخاب برلمان جديد، وسيحصل الفائز فيه على منصب المستشار. ومع قرار ميركل عدم خوض غمار الانتخابات هذه السنة، بات السباق على منصب المستشارية مفتوحا على مصراعيه، بعدما جرت العادة أن يفوز «الحزب المسيحي الديموقراطي» بالمرتبة الأولى، يليه «الحزب الاشتراكي الديموقراطي». بالتالي، باتت هذه المعادلة المستمرة منذ عقود مهددة، في ظل صعود نجم مرشح «الحزب الاشتراكي» أولاف شولتز، الذي عزز من فرصه لخلافة ميركل على حساب منافسه المحافظ أرمين لاشيت، ومرشحة حزب «الخضر» المعارض أنالينا بيربوك.
وعلى الرغم من أن ميركل، على المستوى الشخصي، ستغادر منصبها بشعبية مرتفعة، من غير المضمون أن حزبها، الاتحاد الديموقراطي المسيحي سيبقى في السلطة بعد رحيلها. إذ الصعود المفاجئ لـ «اشتراكيي» الحزب الديموقراطي الاجتماعي، الشريك اليساري في حكومة ميركل الائتلافية، قلب الطاولة على اللاعبين وأعاد خلط أوراق الانتخابات. فقبل أشهر قليلة فقط، كانت كل آمال الاشتراكيين مركزة على التقليل من فداحة خسائرهم الانتخابية. لكن مع اقتراب موعد الانتخابات، وجد الاشتراكيون أنفسهم في الطليعة للمرة الأولى منذ 15 سنة.
في الواقع، انحصر السباق الانتخابي إلى منصب المستشارية (أي رئاسة الحكومة الفيدرالية الاتحادية) في 3 شخصيات:
٭ إرمين لاشيت مرشح الائتلاف المسيحي الذي تنتمي إليه ميركل، ويعد الأقل حظا في الفوز بمقعد المستشارية الألمانية، على رغم أنه كان متقدما بفارق كبير عن الحزبين المنافسين («الخضر» والاشتراكي الديموقراطي)، إذ عكست سلسلة من الهفوات ارتكبها لاشيت صورة سياسي متردد وغير صادق، أدت إلى تراجع الثقة به وبحزبه، كما أنه لا يحمل أفكارا جديدة.
في الأيام الأخيرة قبل الانتخابات العامة في ألمانيا، قررت المستشارة أنجيلا ميركل أخيرا أن تنضم للحملة الانتخابية لحزبها لدعم مرشحه أرمين لاشيت. كانت رسالة ميركل مقتضبة ولكن واضحة: «صوتوا للاشيت لو أردتم استمرارية في النمو الاقتصادي الذي تعيشه البلاد منذ تسلمي السلطة». وتستند المستشارة التي تغادر منصبها بشعبية مرتفعة، إلى خطط الأحزاب المعارضة الاشتراكية واليسارية برفع ضرائب الدخل والضرائب على الشركات والأعمال، وتعتبر ميركل أن هذه الخطط ستؤدي إلى تراجع النمو الاقتصادي وتؤثر سلبا على البلاد. وبات هذا التحذير تكتيك القتال الأفضل لدى الاتحاد المسيحي الذي يكرر هذه التحذيرات بشكل متزايد منذ أيام. وحتى إن لاشيت ذهب أبعد من التحذير من الضرر الاقتصادي الذي يمكن أن يكون لهكذا حكومة، بالقول إنها «ستضعف ألمانيا داخل أوروبا وستضعفها في علاقتها مع فرنسا ومع العالم، وستضعفنا اقتصاديا وفيما يتعلق بأمننا الداخلي». وأضاف في أحد التجمعات الانتخابية محذرا من جر ألمانيا إلى بطالة جماعية وهجرة الشركات وتوقف الاستثمارات لأن اليسار غير موثوق به.
ويحاول لاشيت منذ أيام أيضا استخدام ورقة الأمن لجذب ناخبين، بالترويج لخطط بمحاربة جرائم «العشائر» وهي تعبير يطلقه الألمان على عائلات عربية كبيرة متورطة في الجريمة المنظمة.
وكذلك يروج لاشيت إلى برنامجه لتشديد الإجراءات الأمنية لمواجهة المتطرفين داخل البلاد، وغيرها من السياسات التي تبدو وكأنها تستهدف الناخبين الذين تركوا الاتحاد المسيحي في الانتخابات للتصويت لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف استياء من سياسة ميركل للهجرة وإدخالها مئات آلاف اللاجئين السوريين عام 2015.
٭ مرشحة حزب «الخضر» أنالينا بيربوك الأصغر سنا بين المرشحين (40 سنة) والسيدة الوحيدة، لا تبدو أفضل أداء من لاشيت. هي أيضا ارتكبت هفوات أدت إلى تراجع حظوظ حزبها الذي كان متقدما طوال أشهر على اشتراكيي الحزب الديموقراطي الاجتماعي، حتى إنه حصل في قمة صعوده، مطلع العام الحالي، على المرتبة الأولى بين كل الأحزاب بنسبة وصلت إلى 26% من التأييد. الهفوات في حملة بيربوك قد تكون نتيجة سوء تحضير حزب «الخضر» للمعركة الانتخابية وتواضع مستوى دعمه لمرشحته لمنصب المستشار. فالحزب صغير نسبيا ولا يملك فرق دعم كافية مثل الحزبين الكبيرين العريقين (المحافظ والاشتراكي). مع هذا، فإن حزب «الخضر» قد يصبح «صانع المستشار» المقبل في هذه الانتخابات، حسب مع من سيقرر التحالف، إن لم تأت منه المستشارة نفسها. فالحزب مازال يتمتع بنسبة أصوات تتراوح بين 16 و18%، وهذه نسبة جيدة جدا مقارنة مع الانتخابات الماضية.
٭ نائب المستشارة ووزير المالية الحالي أولاف شولتز من الحزب الاشتراكي الديموقراطي المستفيد الأكبر من تغير المشهد السياسي مع تسارع العد العكسي للمعركة.
وعلى الرغم من أن شولتز لا يتمتع بكاريزما جماهيرية تجعله قادرا على جذب أعداد كبيرة من الناخبين، فإنه استطاع تحقيق هذا الأمر أخيرا. فهو يستفيد من كونه نائب المستشارة، وهو قادر بفضل ذلك على إظهار ثقة بالنفس وتقليد أسلوب ميركل بظهوره كمرشح الهدوء والتفكير المنطقي والشخصية الموثوقة التي يمكن الاعتماد عليها. ومقارنة بلاشيت وبيربوك، يبدو شولتز الأكثر جدارة على صعيد الخبرة في الحكم وإدارة البلاد.
وما يساعد على رفع شعبية شولتز، إمساكه بنجاح بالحقيبة المالية لألمانيا منذ سنوات، ومن ثم اتخاذه قرارات ساعدت على إنتشال كثير من الشركات من الإفلاس إبان أزمة «كوفيد-19» على صعيد ألمانيا وعلى المستوى الأوروبي أيضا، وبعدها أيضا خلال الفيضانات التي ضربت البلاد.
وبحسب آخر الاستطلاعات حصل الحزب الاشتراكي ومرشحه لمنصب المستشار أولاف شولتز على 25% من نسبة التصويت، فيما حل الاتحاد المسيحي ومرشحه لاشيت ثانيا بنسبة 22%.
وكرر شولتز مرارا خلال الحملة الانتخابية بأن الوقت حان للاتحاد المسيحي للجلوس في صفوف المعارضة، في إشارة إلى رفضه إدخاله في حكومة ائتلافية في حال فاز حزبه، وتفضيله التحالف مع حزب «الخضر» الذي يحل ثالثا في الاستطلاعات بنسبة 15%.
ولكن في حال تحالف الاشتراكيون مع «الخضر» فهم سيضطرون لإدخال حزب ثالث صغير للحصول على الأغلبية، وسيقع الخيار على أحد الحزبين: الحزب الليبرالي الذي يحل رابعا بنسبة 12% أو حزب «دي لينكا» اليساري المتطرف الذي يحصل على 7% من نسبة أصوات المستطلعين.
ولم يستبعد شولتز إمكانية تشكيل حكومة يسارية محض، أي مع الخضر و«دي لينكا»، وهي الحكومة التي تحذر منها ميركل.
ولكن حظوظ هكذا حكومة يسارية في حال فوز الاشتراكيين ليست كبيرة، لأن التحالف مع «دي لينكا» سيكون مصحوبا بشروط محددة كما قال شولتز أكثر من مرة خاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، علما أن اليسار يدعو للخروج من الاتحاد الأوروبي ويعارض كل التدخلات العسكرية الخارجية.
مستقبل ألمانيا من دون ميركل هو بالنسبة للألمان على الأقل، مستقبل أقل أمنا. وهو ما دفع بالمرشحين لخلافتها إلى تسويق نفسيهما على أنهما سيكونان نسخة منها. والمستقبل من دون ميركل بالنسبة لأوروبا سيكون من دون شك مستقبلا مختلفا بسبب شبكة العلاقات التي بنتها طوال الأعوام الماضية وتحكمها ومعرفتها بتفاصيل الملفات عن قرب، خاصة الملف الروسي الأوكراني الذي قد لا يجد مستشارا ألمانيا آخر يوليه الاهتمام نفسه الذي أولته له ميركل. أما في ما يتعلق بعلاقة ألمانيا بدول الاتحاد الأوروبي الأخرى سياسيا واقتصاديا، فإن التوجه العام للمرشحين الآخرين، يشير إلى أن الوضع سيكون كما هو عليه، من دون أي تغيير عن حقبة ميركل، لاسيما التعاملات التجارية مع بريطانيا التي قررت الانفصال عن الكتلة، إلا أن احتمالية عدم أخذ ألمانيا بزمام المبادرة فيما يتعلق بالتهديدات الخارجية لأوروبا، هو أكثر ما يثير قلق المتشائمين الذين يقولون إن فقدان الدولة لمركزها القيادي في أوروبا، ستكون له انعكاسات لا يستهان بها على الاقتصاد والمجتمع الألماني، في حين أن علاقاتها المتجذرة مع الولايات المتحدة لن تتأثر أبدا بأي تغيير في منصب المستشارية.
وبين متفائل ومتشائم، يبدو أن مستقبل المشهد السياسي في ألمانيا لن يحيد عن النهج العام الذي سارت فيه ميركل طوال أكثر من عقد ونصف العقد من توليها المنصب، بسبب أن جميع المرشحين، وإن كانوا على خلاف مع المستشارة في بعض القضايا، يدركون جيدا أن ميركل لعبت دورا كبيرا في تنامي السطوة الألمانية على القارة الأوروبية، والإنجازات الكبيرة المرتبطة بحقبتها التي شهدت الكثير من التوترات الإقليمية والعالمية.