- الشيخ مبارك طلب فتح مكتب بريد بريطاني بالكويت خلال زيارة اللورد كيرزون نائب الملك البريطاني وحاكم الهند لدى زيارته للبلاد
- في 1956 بدأت حكومة الكويت باتخاذ إجراءات مهمة وسريعة لاستلام خدمة البريد.. وفي 1958 افتتح أول مكتب حكومي كويتي
- إلغاء استخدام الطوابع الأجنبية وبدء استعمال الطوابع الكويتية في 1959 واتسعت خدمات البريد.. لكننا الآن نرى تراجعاً كبيراً بمستوى الخدمة
- سوق الحدادين ناره مشتعلة على الدوام والطَرق فيه لا يتوقف ويصنع الحدادون كل ما تحتاج إليه صناعة السفن والبناء بكل أنواعه
- سوق الصفافير تولى أعمال صنع آنية النحاس وتبييض القديم وإعادته إلى شكله ونظافته.. وبقايا الصفار كانت تستخدم علاجاً للقروح
- سوق التناكة جامع لعدد من الصنّاع المخصصين لتشكيل صفائح الحديد الرقيقة وصياغة الذهب كانت قائمة لتحويله إلى قطع جميلة تلبسها النساء بالمناسبات
بقلم: د.يعقوب يوسف الغنيم
نقدم في هذا الفصل فقرتين إحداهما مما تهتم به الحكومة، وتتبناه، وتحرص على القيام بكل ما يؤدي الى نجاحه، وهو البريد ففيه فائدة التواصل بين الناس، وتقريب البعيد، ونجاح التجارة وبخاصة في الماضي كما سوف يتبين لنا هنا.
أما الفقرة الثانية فهي ما يقوم به الأهالي وتتعلق بالصناعات اليدوية المختلفة التي سادت في السنين الماضية، وهجر أكثرها، وبقي الأقل بعد أن تطور ودخلت إليه الآلة فحسّنت من إنتاجه.
سوف نرى هنا ما في الأوراق حول هذين الموضوعين، وسوف يلحقها الحديث المعتاد الذي نجريه حول اللهجة الكويتية، ومن هنا نبدأ:
1 - البريد في الكويت
لا شك في أن البريد من أهم وسائل المواصلات، وقد كانت له أهمية قصوى قبل ظهور أجهزة التواصل الحديثة، لأنه كان الوسيلة الوحيدة لتبادل المعلومات في السياسة والاقتصاد والعلاقات الإنسانية على اختلافها.
في الزمن الكويتي القديم كانت الرسائل ترسل بواسطة القوافل التي تقطع الصحراء في رحلاتها الدائبة.
كما كانت السفن الشراعية من وسائل نقل البريد الشخصي والتجاري، وبخاصة وأن سفن الكويت كانت تمر بعدد كبير من الموانئ، فتنقل في طريقها رسائل التجار الى عملائهم ورسائل الأهالي الى أبنائهم في الخارج، وقد استمر الحال حتى بدأ نظام البريد يأخذ طريقه الى الكويت بالتدرج.
وكان الشيخ مبارك الصباح (1896م - 1915م) هو الذي بادر بطلب الاستفادة من خدمة البريد، فتم ذلك تدريجيا بأن بدأ بقسم صغير من أقسام الممثلية البريطانية في الكويت واستمر في النمو على صفات مختلفة الى أن شهدت الكويت مرحلتين من مراحل استمرار العمل البريدي فيهما، وهما: المرحلة الاولى وكانت في بداية الخمسينيات، وفي ذلك الوقت كان البريد تابعا لحكومة الهند والطوابع التي تستعمل للرسائل مزينة بصورة ملك بريطانيا، ومختومة باسم الكويت بالحروف اللاتينية.
وكان موقع البريد في سرداب كشك الشيخ مبارك الصباح، وقد أدى - آنذاك - عملا مهما للناس جميعا، وهو الى جانب استقبال الرسائل القادمة وتوزيعها على أصحابها يتولى استلام الرسائل المرسلة من الكويت، ويعنى بها جيدا بما هو أفضل بكثير من حالنا في هذه الأيام.
وكان ذلك المكتب يتولى الى جانب عمله البريدي، تحويل المبالغ المالية لمن يريد.
أما المرحلة الثانية فكانت تتمثل في قيام حكومة الكويت بمهمة إدارة البريد ومتابعة نمو خدماته.
طلب الشيخ مبارك الصباح فتح مكتب بريد بريطاني في الكويت خلال زيارة اللورد كيرزون نائب الملك البريطاني وحاكم الهند عند زيارة هذا الاخير للكويت في اليوم الثامن والعشرين من شهر نوفمبر لسنة 1903م.
وقد وافقت بريطانيا على ذلك بشرط عدم السماح لدولة أخرى بافتتاح مكتب منافس. وكانت الموافقة الرسمية على افتتاح مكتب البريد المطلوب في اليوم التاسع عشر من شهر فبراير لسنة 1904م، وتقرر إلحاقه بمكتب المعتمد السياسي البريطاني في الكويت.
وقد بدأ العمل حالا في مجال البريد بحضور مندوب من بريد الهند مزودا بكل ما يحتاج إليه العمل. وصار يزاول عمله في مبنى الوكالة السياسية وهذا ما سبقت الإشارة إليه.
وعندما ازدادت أعباء العمل البريدي في موضعه هذا بذل الممثل السياسي البريطاني جهدا مع حكومته من أجل افتتاح مكتب منفرد له.
وتم - فعلا - افتتاح هذا المكتب في اليوم الحادي والعشرين من شهر يناير لسنة 1915م.ومرت السنوات حتى اذا جاءت سنة 1956م بدأت حكومة الكويت في اتخاذ إجراءات مهمة وسريعة لاستلام خدمة البريد.
وفي اليوم الاول من شهر فبراير لسنة 1958م افتتح أول مكتب حكومي كويتي، وكانت بدايته في الخدمات البريدية المحلية. ثم ضمت خدمة البريد وخدمة البرق في دائرة واحدة تولى رئاستها في البداية الشيخ فهد السالم الصباح، وقد توسعت هذه الدائرة فافتتحت منذ البداية عدة فروع لها لتقدم خدمة أوسع وأفضل.
وفي يوم السبت الموافق للحادي والثلاثين من شهر يناير لسنة 1959م احتفلت الكويت كافة الخدمات البريدية، ومن ذلك إلغاء استعمال الطوابع الأجنبية وبدء استخدام طوابع الكويت.
ومن هنا اتسعت خدمات البريد في الكويت وتطور بشكل واسع ولكن إلى حين، لأننا نرى تراجعا في مستوى الخدمة البريدية في هذه الأيام.وعندما نريد أن نقدم مزيدا من المعلومات عن تاريخ خدمة البريد في بلادنا فلابد وأن نشير إلى ما يأتي:
في شهر يناير لسنة 1934م تقدم عدد من تجار الكويت بالتماس الى الشيخ أحمد الجابر الصباح يتعلق بمسألة تعثر وصول البريد الى الكويت بسبب انقطاع وصول الطائرة الوحيدة التي كانت تصل الى البلاد في كل اسبوع مرة.
وقد وقع على الالتماس كل من عبدالله الساير، وجاسم بودي، وأحمد محمد صالح الحميضي، وخالد العبداللطيف الحمد وغيرهم، وقد اشارت الرسالة المحتوية على الالتماس الى الضرر الذي ينال اعمالهم التجارية من جراء تأخير وصول الرسائل الى الأماكن التي ترسل اليها، وفي ختامها: «لذا نرجو ونلتمس من سعادتكم ان تنظروا في مساعدتنا بذلك، والله يحفظكم لمحبيكم».
وقد اهتم الشيخ أحمد الجابر - كعادته - بالالتماس وسعى الى وضع حل لهذه المشكلة التي تؤثر على استمرار الحركة التجارية في الكويت فأرسل في يوم الخامس والعشرين من شهر يناير لسنة 1934 رسالة الى الوكيل السياسي البريطاني في الكويت طالبا منه ان يتصل بشركة الطيران البريطانية صاحبة الامتياز لخط الكويت حتى تعود الامور الى مجراها الطبيعي، ويتم وصول الرسائل وخروجها في الوقت المناسب.
وقد بادر الوكيل السياسي البريطاني الى هذه المهمة وارسل الى فرع شركة الطيران المعنية الكائن في القاهرة طالبا اليهم وضع جدول طيران لا يتغير، وذلك من اجل انتظام العمل البريدي بين الكويت والخارج، وفي السادس والعشرين من شهر مايو لسنة 1934 كتب الوكيل رده الى الشيخ أحمد مبلغا عن اتصالاته بهذا الخصوص، مشيرا الى ان الشركة المعنية تعزو سبب التوقف الى الاحوال الجوية الرديئة التي تسببت في احداث ضرر بإحدى طائراتها، وأن الشركة سوف تسعى الى رصد الاحوال الجوية في الكويت بحيث يتم التحقق من احتمال حدوث الزوابع قبل ان تصل الى البلاد، وأنها قد تقلل من عدد الرحلات ولكنها لن توقفها نهائيا.
وقد رد الشيخ أحمد برسالة مقابلة على الوكيل السياسي البريطاني يشكره على اهتمامه بالموضوع، ونقله لوجهة نظر الكويت ومتابعته ما يتعلق بالأعمال التي تهم البلاد.
2 - الصناعة القديمة
كانت في الكويت القديمة صناعة ولكنها كانت لسد الحاجة ولا تفيض عنها، وتتجاوب مع رغبات السكان في بداية سكناهم، ولقد جرى عليها تطوير جيد واتساع في الانتاج بحسب تقدم المعيشة في البلاد، وتوسع السكان في الاعمال.
اشرنا فيما مضى الى (القلاف) الذي يعمل في صناعة السفن، فينتج منها ما تحتاج اليه البلاد من كافة انواعها، وبينّا الاعداد الكبيرة من السفن المنتجة ذات الاحجام المتعددة، وننتقل الآن الى اعمال اخرى من انواع النجارة نذكر منها:
1 - ما يتعلق بالسكن كإعداد الأسرّة الخشبية (الكرفاية)، وإعداد كرسي الماء الذي توضع عليه اواني المياه لتبريده، وهي اوان مصنوعة من الفخار تجلب من خارج الكويت.
ومن الصناعات الخشبية ما يتعلق بالبناء كالأبواب والشبابيك والأرفف، والمرازيم التي تخرج ماء المطر من السطوح الى الأرض، وهي في الفصحى: الميازيب جمع ميزاب، ويصنع النجار الكويتي القديم بعض ما يحتاج اليه الاطفال كالدراج الذي يبدأ الطفل به مشيه عندما يمسك به، وهو مكون من ثلاث عجلات صغيرة، اثنتان في الخلف، والثالثة في الأمام.
ويقوم هذا النجار بصنع بعض الألعاب التي يفرح بها الاولاد في ايام العيد ومن ذلك نوع من السيارات يصنعه هذا الرجل من الخشب الخفيف، ثم يقوم بتلوينه حتى يكون زاهيا يجلب انظارهم.
ومن اعمال النجارين (الكاروكة) وهي سرير صغير للطفل على شكل ارجوحة تضعه الأم فيه ثم تهدهده حتى ينام قرير العين، ويصنع من النوع نفسه حجم صغير للفتيات الصغيرات يلعبن به ضمن العابهن.
ويصنع النجار - كما قلنا - شباك البيت، ولكن هذا النوع لا يوضع الا في داخل المنزل لأن الخارج لا يجوز ان يطل على ما في الداخل، ليطلع المارة على النساء.
كما يصنع ابواب الغرف، والابواب الخارجية، وبعضهم يجعل لكل ذلك حليات من الخشب يجمل بها البيت او حليات من نوع خاص من المسامير للغرض ذاته.
ومما يصنعه النجار للمنزل ما نسميه (كتيبة) وهي شباك صغير يكون في اعلى الغرفة يدخل عليها ضوء الشمس، ولا يفتح الا في حالات خاصة.
ويعمل النجار على مكافحة القوارض في المساكن حين يصنع ما نسميه في الكويت (الشداخة) وهي مصيدة تصاد بها الفئران، ولفظ شداخة هو من الشدخ والشدخ معناه في اللهجة ان تلقي بالشيء بقوة حتى ينكسر، وفي الفصحى الشدخ كسر الشيء الأجوف كالرأس وغيره، والشداخة التي يصنعها النجار قديما تشبه الصندوق وهو مغطى بشرائط من الحديد وله باب في الجانب، يرفع هذا الباب وتعلق في وسط الصندوق قطعة من الجبن او ما يحبه الفأر، ويفتح الباب بطريقة تسمع بقفله فورا عندما يدخل الفأر الى المصيدة فيتناول الطعم الذي وضع له فيها وهنا يتم القضاء عليه.
هكذا رأينا ان النجارة اخذت شكلا مهما فيما بيناه عن صناعة السفن، واخذت شكلا آخر فيما ذكرناه الآن عن اسهام النجارين في سد حاجة اصحاب المنازل منذ بناء المنزل إلى تأثيثه.
وينبغي ان نشير الآن الى أمر مهم وقديم في الوقت نفسه، وهو اننا كنا نشاهد اماكن مختلفة من العاصمة خصصت لأعمال النجارة واطلق على الواحدة منها اسم: منجرة، وهذا النوع من العمل يعتبر اداء صناعيا مهما لا للكويت وحدها، بل ان بعض المناجر تنتج ما تحتاج اليه بعض البلدان الاخرى. ونذكر من هذه المناجر منجرة الشايجي التي كان موقعها في بداية السوق الغربية، وكانت تصنع كل ما يحتاج اليه الناس ولكنها تميزت بصناعة هياكل السيارات والأبواب الكبيرة المنقوشة، وكثير من الاعمال المهمة.
وقد شاهدت مسجدا تاريخيا في احدى العواصم العربية، ووجدت له بابا خشبيا منقوشا، وقد كتب عليه: منجرة الشايجي في الكويت.
وكان في الكويت - قديما - سوق كبير يسمى سوق الحدادين، وهو سوق مرادف لأعمال النجارة التي لا تخلو اعمالها من الحاجة الى المشغولات الحديدية التي تدخل في بعض الاعمال.
يقع سوق الحدادين في العاصمة يكاد يكون قريبا من مسجد السوق الحالي، وفيه اعمال كثيرة وعدد كبير من العاملين، ناره مشتعلة على الدوام والطرق على الحديد لا يتوقف فيه إلا ليلا.
يصنع الحدادون كل ما تحتاج اليه صناعة السفن من مسامير ضخمة الى عوارض حديدية، بل وينفذون كل ما يطلب منهم صغيرا او كبيرا. كما ينفذون طلبات القائمين بالبناء بكافة انواعه والقائمين بالنجارة العادية كذلك.
كان عملهم يعتمد على اشعال النار، ودوام اشتعالها ومن اجل ذلك، فقد وضع امام الموقد منفاخ يديره شخص لا عمل له الا ذلك، وهم الى جانب العمل يرددون نشيدا ذكره الاستاذ أحمد البشر الرومي في أوراقه الخاصة، فقال ذاكرا هذا النشيد وواصفا العمل الذي يقوم به الحدادون في ذلك الوقت.المعروف أن عملية الحدادة في السابق تقوم على تعاون 3 أشخاص لابد من وجودهم كي يتم العمل، وهم:
أ - الأستاذ: وهو الشخص الذي يستخدم المطرقة الصغيرة بإحدى يديه ويمسك الكماشة باليد الأخرى، وهو الموجه للعمل.
ب - الضرّاب: وهو الشخص الذي يستخدم المطرقة الكبرى، ويحملها بكلتا يديه، وهو تابع في عمله للأستاذ.
ج - النفاخ: وهو الشخص الذي يمسك بالمنفاخ لكي يغذي الكور بالهواء لإشعال الفحم الذي يستخدم في عملية تسخين الحديد، ويكون النفاخ غالبا إما صغير السن أو كفيف البصر. ووضع العمل يكون بتقابل الأستاذ والضراب، بينما يكون النفاخ في الناحية اليسرى من الأستاذ.
في الصباح الباكر، يبدأ العمل بذكر الله، والصلاة على النبي والتسبيح بكلمات يرددونها مثل: يا فتاح يا عليم، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، يا الله على بابك ولا خاب طلابك.. وهكذا ثم يبدأ العمل.
وبعد ان يتناولوا «الريوق» وهي وجبة تُتَناول في الساعة العاشرة صباحا تقريبا، يبدأ الغناء، والغناء هنا يشمل بعض الزهيريات والقصائد أيضا. ولكنها تردد بطريقة خاصة، وهذه القصائد في الغزل أو الشكوى.
ويصنع الحداد الكويتي ما نسمِّيه (الملمص) وهو مجموعة من الكلابات الحديدة مرتبطة بحلقة وحبل طويل تستعمل في استخراج الدلو من البئر أو بركة الماء إذا سقطت في إحداهما.
وليس في كل بيت كويتي ملمص، ولذا فإن من يحتاج إليه يستطيع أن يستعيره من جاره، وهذه هي العادة بين الجيران.
ومما هو قريب من صناعة الحدادة الصناعة المتعلقة بالنحاس، ونسميه - سابقا - الصفر والعامل به صفَّار. ويتولى كل ما يتعلق بأعمال هذا النوع من الآنية المصنوعة من النحاس بما في ذلك تبييض القديم منها وإعادته إلى شكله ونظافته.
ومما يجب ان نذكره هنا أن بقايا عمل (الصفار) من المواد المختلفة تجمع آخر النهار، ويأتي بعض الناس لكي يحصلوا على شيء منها لأنها تستعمل علاجا للقروح وسمَّى هذا «وسخ الصفَّار»، وجرت العادة على أن يرسل الأهالي أبناءهم بأوانٍ صغيرة لجلب هذه المادة من السوق الذي يطلق عليه اسم: سوق الصفافير.
ويكثر عمل الصفارين قبل حلول شهر رمضان بقليل، حيث يستقبلوا قدور الهريس لتحضيرها وتنظيفها للشهر الكريم، وتسمى القدر الواحدة منها صفرية لأنه صنع من الصفر، وله شكل خاص.
والسوق القريب من الصَّفارين هو سوق التناكة. وهو جامع لعدد من الصنّاع الذين خصصوا جهودهم للعمل على تشكيل التنك وهو صفائح الحديد الرقيقة.
وهم يستمدون هذه المادة من علب كنا نطلق عليها اسم (قوطي قاز) وهم يشكِّلون منه بعد تقطيعه عدة أشياء يستخدمها الناس في بيوتهم كالسراج البسيط الذي نسمِّيه (زهيوي) وبعض الأواني الصغيرة، وما نطلق عليه اسم (البمب) وهو الذي يستخرج الماء او الكيروسين (القاز) من العلب الكبيرة ويضعها في زجاجات.
ومن الصناعات التي كانت قائمة في الكويت قديما صناعة صياغة الذهب.. وذلك بتحويله الى قطع جميلة تلبسها النساء في المناسبات والأعياد. يطلق على العاملين في هذا الحقل اسم: الصاغة، كما يطلق على محلاتهم: محلات الصاغة.
وتقع هذه المحلات في وسط العاصمة بالقرب من سوق الحدادين الذي ذكرناه. ولا أزال أتخيّل أماكن عملهم، وأتصوّرهم وهم يعملون منذ الصباح الباكر الى المساء في تلك المحلات.
ذلك انني كنت أدرس في مدرسة الملا محمد صالح العدساني، وكانت هذه المدرسة مدرسة أهلية ملاصقة لسوق الصاغة، ومن هنا فقد كنت أراهم وهم يعملون في ذهابي وإيابي.
تشتعل نار هؤلاء العاملين في صياغة الذهب منذ ان يبدأ عملهم الى نهاية النهار، وهم ينفخون عليها بآلة نفخ خاصة يعمل عليها أحد أبنائهم.
وينتجون كافة ما تتزين به المرأة من خواتم وعقود وحجول، ويصنعون خواتم الرجال أيضا وهي عادة ما تكون من الفضة.
ولقد كان عملهم جميلا ومتواصلا الى حين. وهناك مهنتان قديمتان لابد من ذكرهما ما دمنا قد باشرنا ذكر ما تقدم من المهن. وهما:
1 - مهنة النكاس: وهو الشخص الذي يمر على المنازل مناديا قائلا: إنه نكاس، والنكاس هو الذي يصلح الرحا بعد ان تستعمل فترة طويلة وتصير ملساء بحيث لا تؤدي المطلوب منها، فيقوم هذا الرجل بدق آلة عنده تشبه المطرقة على كافة جوانب الرحا حتى يعيد إليها خشونة الملمس. وكانت المنازل كلها في الماضي تعتمد على الرحا اعتمادا تماما.
2 - المهنة الثانية: هي مهنة نسميها مهنة المجَنِّي. وهو رجل يتخذ من أحد جوانب الطرق او الأسواق موضعا يجلس فيه فيقوم بإصلاح المكسور من الأواني الزجاجية أو الخزفية بطريقته الخاصة.
ونستطيع ان نضيف إلى هاتين المهنتين مهنتين أخريين غيرهما، على الرغم من قلة عدد الذين كانوا يعملون بهما بصفتهما عملا قائما بذاته.
فمن يقوم بهما إنما يقوم بذلك الى جانب عمل آخر وهما: مهنة الخوَّاص الذين يعمل في تشكيل الخوص فيصنع منه أشياء كثيرة لابد منها للمنازل مثل الحصير والزبيل وغير ذلك، وثاني هاتين المهنتين هي مهنة الدماج وهو الذي يصنع من ألياف بعض الأشجار حبالا يستفاد منها في المنازل والبناء والرحلات البحرية، وهذا كسابقه عمل ضئيل، ولكننا نعرف ان البحارة الكويتيين في سفن السفر الشراعية يقومون بإنتاج مماثل في أوقات فراغهم تمضية للوقت وكسبا لمورد مالي جانبي، ولا شك في أن عملهم هذا لا يتم إلا في الرحلات الطويلة التي يستقر فيها الهواء وتهدأ السفينة.
ومن الجدير بنا ذكره، ان هذه الأمور قد عفى عليها الزمن، وحلت في محلها أشياء كثيرة سهلة الاستعمال جيدة الإنتاج.
حول اللهجة الكويتية
كان موضوعنا عن اللهجة الكويتية في فصل سبق نشره عن قصيدة للشاعر راشد السيف، وقد تحدث فيها عن نقد كان معروفا في قديم الكويت هو (الآردي) وهنا نستأنف حديثنا المقارب لذلك الذي تقدم حيث نجد للشاعر عبداللطيف عبدالرزاق الديين أبياتا من الشعر النبطي تدل على شاعريته فهو يتحدث فيها عن شخص ناكر للجميل مغرور بنفسه، لا يقيم وزنا لأحد، وقد أطلق على هذه الأبيات عنوانا هو المذفري وهذا اللفظ من ألفاظ اللهجة الكويتية يدل على ناكر الجميل.
يقول الشاعر في أبياته:
الحر ما ينصاد في كل مره
لو انصاد مره ما بعدها بينصاد
ولا ظنتي يسهل على الناس جره
ماهو ب عن مادار حوله ابرقاد
والمذفري خله ابخيره وشره
رزقه من لسانه على الكذب معتاد
مسرد حكي يوصلك فوق المجره
إلحاجته ويصد ان نال ماراد
جاه النذير وخبره لا يغره
صحو السما وينام ببطون الاوهاد
من ناظم للشعر لله دره
ينظم على كل الطواريق واستاذ
هذا الناكر للجميل لا يعنيه اهتمام الناس، وإن كان يحيط بكل ما يقولونه عنه، ويرددونه ضد أفعاله وأقواله، ولذلك فإن الشاعر يدعو الى تركه، وعدم الاستماع اليه والى افتراءاته.
إنه يسرد لك الكلام الكثير بمدحك حتى انه ليوصلك عاليا الى المجرة، وذلك لكي يحصل منك على ما يريد، ثم يصد إذا نال ما يريده منك.
والشاعر ينذر هذا (المذفري) في البيتين الأخيرين ويخبره بما يضره ولذا فإن عليه أن لا يغتر بالهدوء الذي يراه. هذا ولفظ المذفري من ألفاظ اللهجة الكويتية التي تكاد تنسى الآن.
وعند تدقيق النظر في شعر عبداللطيف الديين نراه يميل دائما إلى تضمين شعره النبطي بألفاظ اللغة العربية الفصحى، وذلك راجع إلى اهتمامه بالشعر الفصيح ديوان مطبوع منذ سنة 1998م ومن هنا وجدنا تأثره الشعري بلغة الشعر الفصيح، وتطبع شعره النبطي بها.
ولكي نقدم نموذجا لما يدل على ذلك، فإننا نختار من شعره الأبيات التالية التي تدل على ما ذكرناه من تأثر له باللغة الفصحى، وذلك في قصيدة جاءت في ديوانه الخاص بالشعر النبطي وعنوانها «صرت اندب الأطلال»، ولا شك في أن هذا العنوان يوحي بما ذهبنا اليه من التأكيد على تأثره بالفصحى، وكان قد قال هذه القصيدة في سنة 1972م.
وكان قد أنشأها متأثرا بما رآه في موقع سكنه القديم بعد أ انتقل منه الى إحدى المناطق السكنية المستجدة، ومما يذكر أنه وجد كل ما كان بالقرب من بيته القديم من مساكن قد هدمت، وما لم يهدم منها فإنه مسكون بأغراب طارئين على البلاد، فأدى به ذلك الى قول هذه القصيدة التي بدأها بهذا المطلع:
البارجة ابجنح الدحى طير النوم
عن ناظري هاجوس قلبي يزومه
واحييت ليلى ساهر الطرف مهموم
لين الفجر، والليل غارت انجومه
اغرق وفيق ابلجه الهم واعوم
عوم الغريق اللي اختفى عنه بومه
واجر آهات ولاني ابمليوم
ما أجهلك باللي مثل حالي تلومه
وفي ذكره للمكان القديم يقول:
يا ملعب ماداج به قط مذموم
ولادنت مغناه دبكة وسومه
مريت من قبل العصر قبل كم يوم
ويلاه من بلواه تدمي اكلومه
امبعثر الحيطان والسقف مهدوم
يبكي زمان فات، يندب اقرمه
والقصيدة طويلة ولكن ما قدمناه منها يدل عليها، وعلى إحساس الشاعر بوطنه، وعلى تمسكه بلغته العربية التي لا تكاد نراها تغادر شعره.
أما معنى الكلمات الواردة فهي كما يلي:
(يزومه: يدفعه، داج: دار به ومشى خلاله).
ومما عرفناه من الديوان الذي نشرت فيه هذه القصيدة ان الشاعر قرأها على عدد من أصحابه كان منها الشاعر صالح الناصر الله الذي تأثر بها وعلق عليها بقصيدة منها قوله:
هاج الضمير وخلف القلب مهموم
صوت لعا بالليل يشكي اهمومه(لعا: أكثر الصياح).
وهكذا وجدنا الشعر النبطي عند بعض شعرائنا يجمع اللهجة العامية مع أمها الفصحى، ولا يجد الشاعر اية غضاضة في الجمع بينهما لأنه يرى لسانه ينطق بهما معا.