بينما أتحدث مع ابنتى عن اهتمامي الشديد بأن أطلع على " تعقيبات" القراء على ما ينشره لى أحد المواقع الإلكترونية من مقالات، وابنتي الطالبة بالمرحلة الإعدادية ، حاضرة الحديث، فإذا بها تسأل عما أعنيه بكلمة " تعقيبات "، فأجابتها أمها بأنها تعنى : Comments ، فابنتي تلقت تعليمها بإحدى مدارس اللغات، حيث أظهرت عدم ارتياحها بفهم الكلمة العربية.
شغلنى الموقف بعد ذلك، لدلالته على " عوار" ثقافى وطنى مؤسف، يصور بتلخيص شديد تطورا ثقافيا مهما ، فالأب الذى بدأ تعليمه فى مدارس حكومية بسيطة من القرن الماضى، سبقها تعليم في كُـتّـاب القرية ، حيث تحفيظ أجزاء من القرآن الكريم، يتحدث بكلمة عربية فصيحة، والابنة التي تعلمت فى مدرسة تُعَلم المقررات باللغة الإنجليزية، استغربت الكلمة، ولم تفهم معناها إلا عندما قيلت لها بالإنجليزية.
لم يستغرق الموقف إلا دقيقة أو دقيقتين، لكنه يلخص تطورا ثقافيا وسياسيا واجتماعيا ليس فى صالح اللغة الوطنية، ذلك أن اللغة بالنسبة للجماعة الناطقة بها ، ليست مجرد حروف وكلمات، ولكنها تلخص من خلال هذه الحروف والكلمات كما يصعب حصره من الموروثات الثقافية، والمعاملات الاجتماعية،والمفاهيم والقيم والعادات والتقاليد، والمعارف والاتجاهات والميول والمهارات التى تشكل فى جملتها " الثقافة " بمفهومها الواسع الذى يلخصها أحد العلماء بأنها :
كل ما أنتجته يد الإنسان وعقله وقلبه.
وهكذا، فإن " ضياع " مساحة من أرض اللغة الوطنية، لا يقل خطورة عن ضياع مساحة من أرض الوطن الجغرافية الملموسة، مع فرق مهم، وهو أننا نفزع لضياع النوع الثانى ولا يقر لنا جفن إلا بتحريره وإعادته، بينما لا نشعر بالقلق نفسه، بالنسبة للنوع الأول ؛ مع إنه أكثر خطورة ، وأشد تمزيقا وضياعا .
وحتى يتضح لنا الفرق بين أمم تعى خطورة القضية وأمم لا تعيها، أنقل للقارئ عبارة قالها مسئول ياباني :
إن اليابان، إذ تهتم اهتماما شديدا بتعليم أبنائها اللغة الإنجليزية ، حتى يكونوا على اتصال بحركة التقدم العلمي والتقنى العالمية، لكنها فى الوقت نفسه تحرص أشد الحرص على أمرين آخرين:
تمكين الأطفال اليابانيين من اللغة اليابانية نفسها،والأمر الثانى " الروح اليابانية "، أو ما قد نعبر عنه بالهوية الثقافية، أو " الذات الوطنية ".
نستشهد بهذا الموقف البسيط فى كلماته، غزير فى معانيه، لأن مجتمعنا، بدأ في التوسع فى تعليم اللغات الأجنبية عامة والإنجليزية خاصة، وهو الأمر الذى لا يستطيع أحد أن يشكك فى قيمته وجدواه، لكن المشكلة الكبرى، هى أن مجتمعنا خلط بين أمرين: تعليم اللغة الأجنبية، وهو الأمر الجيد فعلا، والتعليم بها، وهو الأمر المؤسف حقيقة.
وإذ بدأت أسباب الانقطاع بين ملايين من العرب ولغتهم العربية الصحيحة،وخاصة من الشباب، بدأ الانقطاع عن الكثرة الغالبة من مصادر الثقافة العربية الأصيلة، بحيث يندر أن يقرأ أحد منهم للكتب والأدباء القدامى، وخاصة في ظل انتشار التكنولوجيا التي أضاعت العمر وأفقدت الشباب مفهوم القراءة والكتابة والاطلاع والبحث !!
إن استيعاب مصادر الثقافة الغربية أمر مطلوب،وضرورى، لكن الاكتفاء به، وإدارة الظهر لمصادر الثقافة العربية تضييع للذات ومسخ للهوية.
وفي النهاية نصحيتي لكم :
أجمعوا بين الحُسنيين، ونستطيع أن نلمس هذا في تعليم أولادنا فن الترجمة من العربية إلى الأجنبية أو العكس ، وكذلك إرشادهم إلى تعلم اللغة العربية الفصحى والتحدث بها سواء داخل مدارسنا أم خارجها .