من خلال اللقاءات التي اكتظت بها شاشة رمضان، لفت انتباهي أن كثيرا من المبدعين في جميع المجالات، العلمية، والفنية، والأدبية، اتفقوا على أن معاناتهم الكبرى تتمثل في العراقيل التي تشغلهم عن الإنجاز بتوافه الأمور، ومع الأسف هي سمة عامة يتعثر بها المبدع العربي على وجه الخصوص، حيث تصر بعض الأطراف - غالبا من زملاء المجال ذاته - على جره إلى منطقة النزاع للذوبان في المعارك الصغيرة، بدلا عن تشجيعه ودفعه إلى المزيد من العطاء، ومده بالتسهيلات التي تشبع حاجته المستمرة لفضاءات رحبة للانطلاق.
ومن اللافت للنظر أن العامل المشترك لجميع صناع العراقيل، هو أنهم بلا منجز حقيقي يشغلهم، وهذا ما يجعلهم يقضون جل وقتهم في تدبير المكائد لا لغرض إلا لتعطيل الطرف الآخر فقط.
المؤلم أن العراقيل لا تقتصر على تعطيل الإبداع الفردي فحسب، بل تتجاوزه إلى شل حركة الكثير من مؤسساتنا الفنية والأكاديمية، التي تكتظ بأعداء التميز، أولئك الذين لا وظيفة لهم سوى تصيد هنات زملائهم، حتى إن كانت مفبركة وغير حقيقية، لصنع زوبعة حولها، قد تؤدي إلى تعطيل المشاريع، وتجميد الإنجازات، بأربع خطوات لا أكثر.
الخطوة الأولى تتمثل في رفض كل الوسائل المغايرة التي يستخدمها المبدع للخروج من الصندوق، فإذا جاءهم بفكرة جديدة حاربوه، وإذا حاد عن نهجهم ومسارهم المعتاد، صنعوا له العراقيل، وإذا قدم تجربة مختلفة بحثوا له عن هنات، والطامة الكبرى، أنهم يعترضون على التجارب الجديدة قبل أن يطلعوا عليها أو يقرؤوا تفاصيلها، مما يؤكد شخصانية الطرح، وضحالة الفكر، لأن هدفهم الأساسي هو وأد التجربة لا غير.
ثاني تلك الخطوات التدميرية أن ينصبوا للمبدع «محكمة تفتيش» صغرى، كما في العصور السابقة، والتي كانت تهدف لقتل كل نفس مغاير، سعيا لصناعة جيل لا رأي له، كأن تتم محاسبة مبدع على تطرقه لموضوع معين بدلا عن مناقشته في آلية الطرح، أو أن يحاسب أساتذة جامعيون زميلا لهم لاختلافه في آلية توصيل المعلومة، عن تلك التي يستخدمونها منذ الأزل.
ثالث خطوة من خطوات تدمير المبدع أن يأتوا بأشخاص لا علاقة لهم بالإبداع، بل يكونون معروفين بمحاربته جملة وتفصيلا، ويستعينوا بهم في مؤسسات يفترض أنها إبداعية، والطامة الكبرى حين يتم منحهم صلاحيات تمكنهم من التحكم بمنجز الآخرين، على سبيل المثال، حين تأتي بشخص يحرم الفن في حواراته الخاصة، ولم تطأ قدماه عرضا مسرحيا أو معرضا للفنون التشكيلية منذ سنوات طويلة، لتمنحه فرصة لتحكيم الأعمال الفنية، وهكذا حين تأتي بمن لا منجز لديه على الإطلاق، وتجعله قيما على منجز المبدعين سواء في لجان الرقابة أو في لجان المطبوعات في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ليقرر ما الذي يقدمه المبدع على مستوى النشر والعرض! في حين أن مشاركة هؤلاء سببها الأول البحث عن الترقيات الإدارية أو المكافآت المادية لا أكثر.
أما آخر الخطوات وأخطرها فتلك التي تتمثل في حشد (الأغلبية) ضمن عضوية اللجان لتسيير الاجتماعات حسب الأهواء الشخصية، سعيا للخروج بقرارات قاتلة للمؤسسة العلمية أو الفنية، ولا يهم بالنسبة لهم ما إذا كان وجود الأغلبية ملائما أو قانونيا، لأن المهم لدى هؤلاء أن تتحقق أجندتهم، وكلما استطاعوا ضم صوت جديد مؤيد لهم شكلوا تكتلا خطيرا بإمكانه أن ينسف الحق ويعلي من شأن الباطل تحت بند (أغلبية الأصوات).
جميع تلك الخطوات، وغيرها، قد تعجل - وبسهولة - من تدمير المبدع، سواء بصورة فردية أو عبر مؤسسات علمية وفنية، لكن ذلك لا يمكن له أن يحدث إلا في حال خضع المبدع لتلك الوسائل، صمت أمام عنفها، ارتبك أمام غالبية أصواتها.
ولمواجهة هؤلاء، لابد من الاستمرار في العمل قبل كل شيء، فلا يمكن أن يترك لشخص لن يذكره التاريخ الفرصة لقتل طموحات من يسعى للإنجاز، ومن كرم الله عز وجل، أنه تعلو أحيانا بعض الأصوات الداعمة للإبداع، بآراء موضوعية، وكلمات مشجعة، يستمد منها المبدع قوته وطاقته.
ويبقى القلم هو السلاح الفعال - بعد الإيمان بالله عز وجل - لمواجهة كل العراقيل، فالمبدع الحقيقي، مهما انشغل بالعمل، لابد لقلمه الحر أن يمارس دوره يوما ما، لأن مسؤولية تعرية تلك الوسائل تقع على عاتقه، حتى يكشف للرأي العام ما يدور في الغرف المغلقة، ولكن في الوقت المناسب.