- الحب العذري لم يقتصر على بني عذرة بل صار مع الزمن عنواناً للحب الذي لا أمل وراءه وتعدد شعراؤه على نمط الأوائل
- الشاعر الكويتي عبدالله الأنصاري أحد أبرز الأدباء تغنى بالحب في شعره وعبَّر عن معاناة المحبين وحرمانهم من التجاوب المأمول ممن يحب
- شعر الأنصاري لا يخلو من قصائد الغزل رغم أنه معروف باستقامته وجاء شعره على نمط «العذري».. ضرباً من الخيال رقيقاً آسراً
ألقى نقاد الشعر العربي ورواته القدماء على هذا الشعر اسماً انفرد به هو: «ديوان العرب»، بمعنى أنه سجل العرب الذي نجد فيه تاريخ الأحداث التي مرت بهم، وهذه حقيقة يبصرها من يقرأه فيجده معبرا عن الأحوال التي مروا بها عصرا بعد آخر، فأعان على التذكير بأيام العرب، وأحداث أزمنتهم التي مرت منذ أيام الجاهلية الأولى، إلى أيامنا هذه، بل لقد وجدنا المؤرخين - حين كتبوا التاريخ العربي - يستشهدون بكثير من الأشعار التي تدل على ما يذكرونه في مدوناتهم، فيكون هذا الاستشهاد بمنزلة إثبات للحقائق التاريخية الواردة في تلك المدونات.
ولا يخفى أن الشعر العربي متنوع في أغراضه، ولكنه كان مرتبطا بحياة المجتمعات التي تلقفته من ألسنة الشعراء، حتى لقد كان لكل قبيلة شاعر يدفع عنها أقوال أعدائها مثلما يدفع المحاربون من أبنائها غائلة المعتدين عليها. كما يقوم الشاعر بالإشادة بمفاخر قبيلته، والرد على كل من يسيء إليها من شعراء القبائل المنافسة لها.
ويرى المتتبع للشعر العربي مدى تنوعه من حيث أغراضه وأوزانه التي تكفل بدراستها علم العروض. ونذكر من تلك الأغراض التي هي الموضوعات التي تشتمل عليها القصائد: شعر المديح والهجاء، ووصف الحروب والفخر بالانتصارات. ومنها - كذلك - الغزل، ولا يخلو شعر العرب من هذا النوع الأخير الذي أجاده عدد كبير من شعراء العربية، وأحبه أهلها، كما أشاد به النقاد.
وها نحن نذكر نوعا من أنواع الشعر الذي قاله الشعراء في الغزل، واحتفظ به الأولون حتى وصل إلينا، وقد اهتموا بروايته في مجالسهم، والغناء به في مجال الغناء الذي كان سائدا في زمنهم.
ولما كان الشعر الغزلي كثير التنوع، فإننا نرى أن من الأفضل الاقتصار في حديثنا هذا على نوع واحد منه، وهو المرتبط بما يسمى: شعر الحب العذري.
اشتهر بعض الشعراء العرب من معاصري الحقبة الأموية بأنهم شعراء يكثرون من فن الغزل الشعري مع الارتباط بمحبوبة بعينها لا يفارقونها إلى غيرها. وقد عرف بعضهم بأسماء من كانوا يُشبِّبون بهن (يذكرون محاسنهن)، فقيل جميل بثينة، وكثير عزة، ومجنون ليلى، وقيس بن ذريح الذي كان يتغزل بلبنى، وهناك شعراء آخرون على هذه الشاكلة. وقد تميزوا - جميعا - بأنهم كانوا يحبون محبوباتهم دون أي أمل في الارتباط بهن بالزواج، إضافة إلى أنهم كانوا على مقدار كبير من العفاف بحيث لم يقعوا في الحرام، ولما كان أكثر هؤلاء ينتمون إلى بني عذرة فقد اشتهروا بهذا الاسم فكان يطلق عليهم لقب يرتبط بهذه القبيلة فيقال عنهم إنهم العذريون، حتى ولو لم يكونوا كلهم من القبيلة ذاتها، بل وأطلق على الحب الذي لا أمل وراءه اسم: الحب العذري. ولا يزال هذا الاسم ساريا إلى اليوم.
وينبغي لنا هنا أن نسوق دليلا على عفاف هؤلاء فنمثل لذلك بما أثر عن جميل بثينة، وهو جميل بن معمر المتوفي في سنة 82 هـ، وقد اشتهر بحبه لبثينة وكثرة أشعاره فيها حتى لقد ظن البعض به الظنون، ولكنه - على الرغم من ذلك - كان عفيفا، بعيدا عن اقتراف المحرمات، منزها عن كل ما رمي به من تهم، وهو يقول:
لا والذي تسجد الجبال له
مالي بما تحت ثوبها خبر
ولا بفيها ولا هممت به
ما كان إلا الحديث والنظر
ومن أهم الدلائل على صدقة، ما روى عنه أحد الرواة الثقات، وهو سهل بن سعد الأنصاري الساعدي (وكانت كنيته: أبا سهل) وهو آخر من توفي في المدينة المنورة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: «دخلت على جميل وبوجهه آثار الموت، فقال لي: يا أبا سهل، إن رجلا يلقى الله ولم يسفك دما حراما، ولم يشرب خمرا، ولم يأت فاحشة، أترجو له الجنة؟ قلت: أي والله، فمن هو؟ قال: إني لأرجو الله أن أكون ذلك. فذكرت بثينة، فقال: إني لفي آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة، ولا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن كنت قد حدثت نفسي بريبة قط».
ومما يؤكد ذلك بيت قاله في وصف تعلقه ببثينة يقول فيه:
ألا ليتني أعمى أصم تقودني
بثينة لا يخفى علي كلامها
إنه على استعداد كي يفقد حاستي السمع والبصر، ولكنه لا يستطيع أن يفقد صوتها، بل هو لا يريد أن يسمع غير هذا الصوت. أما غير ذلك فإنه لا يهتم لفقدان أي شيء في الدنيا.
وما يدل على عفاف جميل بثينة، وعلى رضاه منها باليسير، وصده عن المحرمات أيا كانت، قوله:
وإني لأرضى من بثينة بالذي
لو أبصره الواشي لقرت بلابله
بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى
وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله
وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي
أواخره لا نلتقي وأوائله
إن ما يريده من بثينة لقليل، تهدأ به وساوس الوشاة لو عرفوا به، فهو يكتفي بكلمة منها حتى ولو كانت قولها (لا)، وبالأمل الخائب الذي لا رجاء بعده، أو النظرة العاجلة التي لا أثر لها. أو اللقاء السريع مرة واحدة في السنة. على أن يكون لقاء خاليا من الإسفاف.
ومن مثل جميل بن معمر المتقدم ذكره، تحدث رواة الشعر والأدب القدماء عن شاعر آخر، يشاركه في جودة الشعر، ويشبهه في تعلق نفسه بهوى ملك عليه قبله.
وهذا هو كثير بن عبدالرحمن المشهور بقولهم: كثير عزة، وعزة بنت جميل، امرأة حسناء، ذات عقل راجح، ولها ذكر كثير في أشعار هذا الشاعر، فسمي: كثير عزة لأجل ذلك.
وقد توفي كثير بن عبدالرحمن في سنة (105 هـ)، وله ديوان جمعه عدد من الرواة، وطبع لأول مرة في سنة 1928م بالجزائر، ثم طبع بها مرة أخرى في سنة 1930م وكان في جزأين مشروحين.
أما ديوانه الذي هو بين أيدينا الآن فقد طبع في بيروت سنة 1993م، بعناية دار الكتاب العربي، وقد قدم له وشرح بعض ألفاظه: مجيد طراد، ومن يقرأ قصائد هذا الديوان فإنه سوف يرى نموذجا مشابها بالعفة والإخلاص في المودة، والثبات عليها، والتماس العذر للمحبوبة إذا زلت أو صدت عن هذا المولع بها. وقد كان مما قاله في هذا الشأن حين ذكرها وبين طباعها وأبدى حنينه إليها قصيدة طويلة يكاد يجمل فيها حكايته معها. وهذه هي القصيدة التي بدأ أبياتها بقوله:
خليليَّ: هذا ربع عزة فاعقلا
قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
ومسا ترابا كان قد مس جلدها
وبيتا وظلا حيث باتت وظلت
ولا تيأسا أن يمحو الله عنكما
ذنوبا إذا صليتما حيث صلت
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا
ولا موجعات القلب حتى تولت
ينادي (كُثيِّر) صديقين يسيران إلى جانبه، ويطلب منهما عند المرور بالمكان الذي كانت عزة تقيم فيه مع أهلها أن يشدا رباط ناقتيهما، ويقفا هناك، ثم يبكيان معه بسبب الفراق، بل ويطلب منها أن يمسا التراب الذي مس جلدها، وأن يبيتا في ذلك المكان متجملين بالأمل في أن يمحو الله سبحانه وتعالى ذنوبهما، إذا صليا هناك. ثم يبين لهما أنه لم يعرف البكاء قبل فراقها له، ولم يشعر بآلام القلب إلا بعد نزوحها عنه.
ويذكر انقطاعها عنه، فيصورها امرأة قد نذرت نذرا التزمت به، وهو: الفراق، وقد وفت بنذرها وأدت ما عليها.
ثم يقول:
فقلت لها: يا عز كل مصيبة
إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
ولم يلق إنسان من الحب ميعة
تعم، ولا عمياء إلا تجلت
أما عزة فلم تكن سهلة القياد لهذا الشاعر المحب، بل لقد كانت حريصة على أن لا تلحق بسمعتها ما يسوء، وتحفظ نفسها وأهلها من قالة السوء. ولذلك فقد وصفها قائلا:
كأني أنادي صخرة حين أعرضت
من الصم لو تمشي بها العصم زلت
ولم يلق إنسان من الحب ميعة
تعم ولا عمياء إلا تجلت
(اعرضت: صدت. العصم: جمع أعصم، وهو الظبي الذي نرى في يديه أو قدميه بياض، زلت: زلقت، صفوح: معرضة).
ويذكر ما به من الصبابة، وشدة الشوق إلى هذه الحبيبة النافرة، ثم لا يترك نفسه على سجيتها بل يرجع إلى القول الذي يدل على وفائه لها، وإخلاصه لحبها، وهو يأبي أن يدعو عليها بما يضرها، أو يشمت بها إن أصابها مكروه، فهو الوفي الصادق الود دائما:
وإني وإن صدت لمثن وصادق
عليها بما كانت إلينا أزلت
فلا يحسب الواشون أن صبابتي
بعزة كانت غمرة فتجلت
إلى أن يقول:
فوا عجبا للقلب كيف اعترافه
وللنفس لما وطنت فاطمأنت
وإني وتهيامي بعزة بعدما
تخليت مما بيننا وتخلت
لك المرتجي ظل الغمامة كلما
تبوأ منها للمقيل اضمحلت
ومما يذكر أن الشاعر قد قال قصيدته بعد أن فقد عزة إلى الأبد بزواجها من غيره. ومع ذلك، فإنه غير ناقم عليها إذ نراه يعبر عن شوقه إليها، وإعجابه بها، ويذكر أيامه معها، وهي أيام لم يجر خلالها ما يجرح العفة، أو ما يسيء إلى سمعة أحدهما، فكلاهما كان صادق المودة لصاحبه، بعيدا عن اقتراف ما يعيب. وهذا هو الحب العذري.
وهذا شاعر عفيف آخر من شعراء العصر الإسلامي الأموي، إنه: عروة بن أذينة الذي ينتمي إلى إحدى قبائل العرب ذات المكانة، والاسم الذائع. وهو شاعر مبدع، متين الشعر له قصائد ذات شهرة وهو يعتز بنفسه، يثق بأن الله سبحانه وتعالى لن يكله إلى أحد من الناس، فهو الرزاق لسائر خلقه.
كانت له أبيات أعرب فيها عن ثقته بنفسه، وقوة إيمانه واتكاله على الله عز وجل.
قيل إنه ذهب - كعادة الشعراء - إلى الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (724م - 743م)، مع جماعة من الشعراء. وعندما دخلوا على الخليفة سألهم عن أنسابهم فعرفهم جميعا، وعندما عرف عروة قال له: أأنت الذي يقول:
لقد علمت وما الإسراف من خلقي
أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنيني تطلبه
ولو جلست أتاني لا يعنيني
وذكر عشرة أبيات على هذا النمط. فرد عروة قائلا: نعم أنا قائلها.
وتقول الرواية:
«قال هشام بن عبدالملك: فهلا قعدت في بيتك حتى يأتيك رزقك؟ وغفل الخليفة عنه بعد ذلك. فركب الشاعر دابته من وقته ومضى، ثم افتقده هشام فعرف أنه غادر، فأرسل إليه جائزته لم يحرمه منها. وأوصى حامل الجائزة بأن يقول لعروة: أردت أن تكذبنا وتصدق نفسك؟ ولحق به الرسول وقد قطع مسافة من الطريق فأبلغه الرسالة وناوله الجائزة، فقال: قل للخليفة: قد صدقني الله، وكذبك».
ومن أجمل أبياته الغزلية التي شاعت بين الناس في أيامه ولا تزال تحظى بالإعجاب لرقتها، وحسن معانيها، ودلالتها على ما كان يتمتع به من طيبة نفس، وسماحة وصدق مودة، قوله:
إن التي زعمت فؤادك ملها
خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فيك الذي زعمت بها وكلاكما
يبدى لصاحبه الصبابة كلها
وفي آخر الأبيات:
بيضاء باكرها النعيم فصاغها
بلباقة فأدقها وأجلها
لما عرضت مسلما لي حاجة
أرجو معونتها وأخشى ذلها
منعت تحيتها فقلت لصاحبي
ما كان أكثرها لنا وأقلها
فدنا وقال: لعلها معذورة
من أجل رقبتها، فقلت: لعلها
فانظر إلى جمال الصياغة، وحسن الظن بالحبيب، والطيبة والسماحة في قوله هذا فهو يخبرنا بأن هذه التي وصفها قد منعت عنه تحيتها مع أن هذا أقل ما يرجوه منها، وهو في الوقت نفسه أقصى آماله وأجلها (أكبرها). ثم يقول: ولكن صاحبي وهو يستمع إلى ما بحت به من أسف بسبب منعها للتحية، قال لي: لعلها معذورة، ألا ترى الرقباء حولها، ألا تعلم أنهم يشيعون عنها كل ما يبدر منها؟ وكان رد الشاعر موافقا لرأي صاحبه حين قال: لعلها أن تكون كذلك، وقبل عذرها الذي لم تبح به، وإنما استنتجه صاحبه. وهذا هو عين الإخلاص والصدق في المودة.
هذا، ولعروة بن أذينة صيت ذائع في دنيا الشعر، وكان يعيش في المدينة المنورة، وله ذكر في كافة المراجع التي ذكرت الشعراء والأدباء، ومنها: كتاب الأغاني للأصفهاني، وكتاب التاريخ الكبير للبخاري، وكتاب وفيات الأعيان لابن خلكان، وغير ذلك. وله ديوان مطبوع في سنة 1970م. وكانت وفاته في حدود الثلاثين بعد المائة للهجرة.
وكما تبين - مما مر بنا - أن الحب العذري لم يعد مقتصرا على بني عذرة وحدهم، بل لقد صار - مع الزمن - عنوانا للحب الذي لا أمل وراءه، وتعدد الشعراء الذين قالوا قصائد الغزل على نمط العذريين الأوائل، ولكن الاسم بقي كما هو. وها نحن نرى شاعرا من الشعراء الذين عرفناهم وعشنا معهم زمنا عرفنا خلاله مكانتهم في فنهم هذا. وهو الشاعر الكويتي عبدالله زكريا الأنصاري الذي تغنى بالحب في شعره، وعبر به عن المعاناة التي يتكبدها المحبون، ومنها الشعور بالحرمان عندما لا يجد التجاوب المأمول ممن يحب. هذا الشاعر الأديب لا يحتاج الآن إلى تعريف فهو من أبرز أدباء الكويت وشعرائها له عدة مؤلفات في النقد الأدبي وتاريخ الشعراء، وله ديوان شعر مطبوع، وكان ينشر مقالات متنوعة الأغراض في صحف الكويت اليومية، ولكل ما يكتب كثير من المتابعين الذين ينتظرون إنتاجه إعجابا به.
برزت قدرات الأستاذ عبدالله زكريا الأدبية والفكرية منذ أن بدأ في نشر مقالاته وقصائده في مجلة البعثة الكويتية التي كان بيت الكويت في القاهرة يصدرها منذ سنة 1947م، وقد صار رئيسا لتحريرها بعد فترة من صدورها. وتوج جهوده هذه بكتابه: «فهد العسكر: حياته وشعره» فحفظ لنا آثار شاعرنا العسكر، وأبقى ذكره بين الناس، فعرفته الأجيال اللاحقة بسبب هذا الكتاب الفريد. أما شعره فهو متنوع تطرق فيه إلى موضوعات كثيرة، حتى كاد يكون صورة للحياة التي كان الشاعر يحياها حين يحيط به رواد مجلسه من الأصدقاء ومحبي الأدب.
ولد عبدالله زكريا الأنصاري في الكويت سنة 1922م، وتوفي فيها سنة 2006م، وقد بدأ دراسته في مدرسة والده الأهلية، ثم انتقل إلى المدرسة المباركية، وبعدها اشتغل في سلك التعليم مبتدئا بمدرسة والده.
ولقد تولى بعد ذلك أعمالا رسمية فكان:
- مدرسا بالمدرسة الشرقية.
- مسؤولا عن المحاسبة في بيت الكويت بالقاهرة.
- وزيرا مفوضا لدى سفارة الكويت في مصر.
- مديرا لإدارة الصحافة والثقافة بوزارة الخارجية حتى تقاعد عن العمل في سنة 1987م.
هذا، وقد بلغ عدد مؤلفاته اثني عشر كتابا كلها في الأدب والنقد والسياحة بين الكتب، بالإضافة إلى ديوانه الشعري الذي أصدرته مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري بعد وفاته، وذلك في سنة 2012م.
وقد نال في الكويت جائزة الدولة التقديرية في الآداب، اعترافا بجهوده في هذا المجال.
وشعر الأستاذ عبدالله زكريا لا يخلو من قصائد الغزل، مع أنه معروف باستقامته، وبعده عن متابعة شهوات النفس، ولكنه لم يكبت شعوره حين كتب الشعر فجاء به على النمط الذي كان يأتي به الشاعر العذري، ومن هنا نستطيع القول عن قصائد شاعرنا الأنصاري الغزلية أنها ضرب من الخيال يطلق له العنان فينثال رقيقا آسرا. نسمعه وهو يقول:
يا من أهواه وأعشقه
وأراه يصد ويهجرني
يذكي في القلب لهيب جوى
فيكاد الوجد يمزقني
في العقل يدور وفي خلدي
ويثير الشعر ويلهمني
ويدير القول فأسمعه
في الروح يرن وفي الأذن
وقد وردت أبياته هذه ضمن قصيدة أدرجت في ديوانه بعنوان: «مفتاح النيل» وهي نبض عاطفي رقيق، وعنوان مودة متمكنة في وجدان الشاعر. وقد علق على عنوانها بقوله: «مفتاح النيل: عقد من الذهب يتيه على صدر إحداهن دلالاً، فسألها عنه، فقالت: إنه مفتاح النيل، فكتب هذه القصيدة في 25/9/1976م».
ولطول قصيدته فإننا نكتفي بالإشارة إليها، وبما قدمناه منها، ولكننا لا نستطيع أن نغفل ختامها الجميل الذي جاء فيه:
آنا إن قربت لها بعدت
أو أدنو منها تبعدني
أقسمت بها وبطلعتها
وبروح الوجد يعذبني
وبدينا الشعر أهيم بها
وبرب الحسن وبالفتن
سأعيش بها أبدا نورا
في الفكر ونارا تحرقني
هذا قول شاعر عفيف لا يبحث عن اللذة، ولا يطلب نعيم الوصال، ولكنه يحمل عبء الحب في قلبه، ويعيش به طوال حياته مهما تحمل في ذلك من أعباء الشوق إلى المحبوب الذي ليس إليه من سبيل. ولقد صمم على العيش في الجو الذي اختاره لنفسه غير عابئ بما يجره ذلك عليه من متاعب الروح والقلب. بل إنه ليصمم على أن يعيش - أبدا - وهو يجعل من يهوى نورا يضيء له ظلام حياته وفكره حتى ولو كان في الأمر جانب محرق هو هجرها وصدودها.
إذن، فهذا تعبير شاعر عذري لم يعاصر الشعراء العذريين ولكنه أحس بإحساسهم، وقال شعره على منوالهم.
هذه سياحة في جانب من جوانب الشعر العربي، أظهرت لنا الجانب المشرق في شعراء أمتنا، وأثبتت أن هذا النبراس لا يزال مضيئا يرسل نوره إلينا حتى اليوم، وها نحن نرى كثيرين من شعراء العرب في عصرنا الحاضر، وهم يرسلون قصائد الشوق مع الاحتفاظ بقدر كبير من ضبط النفس عن الوقوع في المحاذير.