لقد جبل الله تــعالــى النفس البشـرية علـــى الارتباط بالآخرين ومجالستهم والأنس بهم، ولا يخفى على أحد ما للجليس من تأثير على جليسه وصاحبه، فالطباع سراقة، والصحبة مؤثرة في إصلاح النفس وفسادها، والنفس مجبولة على التشبه والاقتداء من حيث تدري أو لا تدري وهذا ظاهر، ولهذا ذكر العلماء أن الإنسان يتأثر بمن يختلط به حتى لو كان حيوانا، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن ذلك:
قوله صلى الله عليه وسلم: «رأس الكفر نحو المشرق والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل والفدادين أهل الوبر والسكينة في أهل الغنم» متفق عليه. فهذا الحديث اشتمل على أن أصحاب الإبل الكثيرة يصاحبهم في الغالب كبر.
وقد انتقل إليهم هذا الداء لما صاحبوا الإبل، قالوا لأن الإبل إذا مشت تمشي وهي رافعة رأسها إلى أعلى، أما الشاة لكونها ساكنة أورثت أهلها سكونا وتواضعا، لهذا جاء في الحديث «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم فقال أصحابه وأنت فقال نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» أخرجه البخاري.
وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه ركب برذونا فجعل يتبختر به فجعل عمر يضربه فلا يزداد إلا تبخترا فنزل عنه وقال: ما حملتوني إلا على شيطان ما نزلت عنه حتى أنكرت نفيس. وهذا الذي وجده عمر رضي الله عنه ظاهر مشاهد اليوم، حينما ترى بعض الناس ممن ركب سيارة فارهة احتقر الآخرين وازدراهم، ونظر إليهم بعين الترفع والتعالي، بل ربما جعل علاقته واحترامه للآخرين بالنظر إلى ما يلبسون ويركبون وما ذلك إلا لتأثره بمن خالط وصاحب.
ولقد تمثل أنبياء الله تعالى تجنب أصحاب السوء لما علموا ما لهم من تأثير سيئ على من جالسهم، فهذا موسى عليه السلام يدعو ربه بقوله: (فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين - المائدة:25)، وهذا الخليل إبراهيم عليه السلام قال لقومه: (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله - مريم:48)، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد حقق هذا المعنى جليا في قصة الهجرة من مكة إلى المدينة، فإنه عليه الصلاة والسلام لما خالط المشركين تعب وناله ما ناله، وأوذي عليه الصلاة والسلام، فلما اعتزل أهل الشر والإفساد، حقق الله له ما أراد ومكن له في الأرض.
وقد راعت الشريعة أهمية هذا الأمر من خلال تشريعاتها وأحكامها التي حضت وأوجبت أحيانا اعتزال أهل الشر والفساد، ففي حد الزاني البكر جاء الشرع بجلده مائة وتغريب سنة أي نفيه سنة، كل ذلك ليبتعد عن مكان المعصية وموارد المنكر حتى لا تتحرك نفسه وشهوته إلى تكرار الخطأ ومعاودة الزنا.
وفي قصة الذي قتل مائة نفس كان جواب العالم الفقيه لما سأله ذلك القاتل عن إمكانية توبته فأجابه بقوله: انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن فيها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فلما كان في الطريق أدركه الموت فنأى بصدره ثم مات فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجعله الله من أهل الجنة.
لا يخفى على كل ناظر ومستمع وعاقل ما لأصحاب السوء من أثر سيئ على الإنسان، فقد يوقعونه في الكفر والبدعة والمعصية، وهذه قصة حديث في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تبين هذا الأمر.
فقد أورد السيوطي في الدر المنثور بإسناده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أبا معيط كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يؤذيه وكان رجلا حليما وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام فقالت قريش: صبأ أبو معيط فلما قدم خليله من الشام ليلا فسأل عنه أبو معيط فقالوا له: لقد صبأ وأخذ يجالس محمدا، فلما أصبح أتاه أبو معيط فحياه فلم يرد عليه التحية فقال: مالك لا ترد على تحيتي، قال: كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت؟ قال ما يبرئ صدرك؟ قال: تأتي محمدا في مجلسه وتبزق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم ففعل عدو الله، فجاء فبزق في وجه رسول الله فما زاد عليه السلام أن مسح البزاق عن وجهه، وفيه نزل قوله تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً - الفرقان: 27-29).