كمــا يســعى الشيطان إلى إفساد دين الناس وأخلاقهم عبر الكفر والبدعة والذنوب والمعاصي، فهو كذلك يسعى إلى إفساد أبدان الناس وإلــــحــاق الأذى البدني والنفسي والعقلي بهم، ومن هذه الطرق مسّ الشيطان للإنسان وتلبسه به وصرعه، وحقيقة تلبس الجن بالإنس ثابتة في الشرع والعقل والطب والنظر والمشاهدة، وهي مسألة محل اتفاق بين أئمة أهل السنة والجماعة ولم يخالف في هذا إلا العقلانيون ومنهم المعتزلة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: دخول الجن في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة.
قال عبدالله بن الإمام أحمد قلت لأبي: إن أقواما يقولون إن الجن لا يدخل في بدن المصروع، فقال: يا بني يكذبون، هذا يتكلم على لسانه.
يقول شيخ الإسلام معلقا: هذا الذي قاله الإمام أحمد مشهور، فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب على بدنه ضربا عظيما لو ضرب به جمل لأثر به أثرا عظيما، والمصروع مع هذا كله لا يحس بالضرب ولا بالكلام الذي يقوله.
إلى أن قال: وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجن في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر ذلك وادعى بأن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع. 1.هـ رحمه الله.
مما يدل على صحة تلبس الجن بالإنس أدلة منها:
1 - قوله تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا). (البقرة 196).
ومعنى «يتخبطه» أي يخبله الشيطان ويخنقه ويصرعه كما قال الطبري، و«المس» هو الجنون وهذه الآية من فوائدها أن الجزاء من جنس العمل فهذا المرابي كما تخبط في الدنيا فبحث عن المال من أي طريق، ولهث وراءه ها هو يجازى من جنس عمله فيبعث يوم القيامة متخبطا كتخبط المصروع لا يدري أين يهيم ولا في أي طريق يسير.
2 - ومن الأدلة على تلبس الجن ما جاء عن يعلي بن مرة قال: رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ما رآها أحد قبلي، فذكر أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فمروا بامرأة جالسة معها صبي لها، فقالت يا رسول الله: إن هذا الصبي أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء يؤخذ في اليوم ما أدري كم مرة، فقال: ناولنيه فرفعته إليه، ثم فغر فاه فنفث فيه ثلاثا، وقال: «بسم الله أنا عبد الله اخسأ عدو الله ثم ناولها إياه، فقال: القينا في الرجعة في هذا المكان، فأخبرينا ما فعل، قال: فذهبنا ورجعنا فوجدناها في ذلك المكان معها شياه ثلاث، فقال: ما فعل صبيك؟ فقالت: والذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئا حتى الساعة» رواه أحمد وعبدالرزاق.
3 - ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» أخرجه البخاري.
4 - وجاءت امرأة كانت تصرع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إليه قالت: «إني أُصرع وإني أتكشف فادع الله لي». قال: «إن شئت صبرتِ ولكِ الجنة وإن شئتِ دعوت الله أن يعافيكِ. قالت: أصبر. قالت: فإني أتكشف فادع الله ألا أتكشف. فدعا لها» متفق عليه.
فهذه الأدلة وأمثالها دليل صريح على من زعم وأنكر تلبس الجن بالإنس بناء على فلسفات ونظريات وتقليد لبعض جهلة الأطباء.
قال ابن القيم: «وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع وليس معه إلا الجهل» ا. هـ.
وها هنا تنبيه مهم جدا: مع كل ما ذكرنا من حقيقة تلبس الجن بالإنس إلا أنه لا ينبغي أن يتصور الإنسان أن كل سقوط لمريض أو حلول مرض به أو إغماء أو وقوعه في تخاريف وتمتمات أن مردها إلى الجن والتلبس والصرع، فهذا خطأ، بل يجب أن يرجع كذلك إلى أهل الاختصاص من الأطباء والنفسانيين مع عدم إغفال أمر الرقية الشرعية والحرص على التحصن والوقاية قبل ذلك.
ثم يجب أن نعلم كذلك أن الرقية والعلاجات إنما تنفع بإذن الله ولا يلزم أن يحصل الشفاء بعد كل رقية، ولأنه قد يكون سبب عدم التعافي عدم تحقق شروط إجابة الدعاء وعدم انتفاء الموانع.