بيروت ـ جويل رياشي
من مقرها في بيروت، يتوزع نشاط «مؤسسة الفكر العربي» من مؤتمرات وندوات ودراسات وتقارير وإصدارات، على الدول العربية كافة. وانطلاقا من رسالتها وأهدافها، يؤمن القيمون عليها بموقع الثقافة الفاعل في مسيرة بناء الأوطان العربية وتنميتها، وبدور المثقفين الحاسم في تطوير المجتمعات ورقيها.
«الأنباء» التقت المدير العام للمؤسسة د.هنري العويط، الأكاديمي العريق الذي لم يدخل محفلا جامعيا أو علميا أو ثقافيا إلا وأغناه برؤيته الثاقبة في الإدارة، ودار حوار حول شؤون المؤسسة وتطلعاتها، ودور المثقف اللبناني في التصدي للأزمات، وكذلك تحدث عن الكتاب، عن فيروز، الذي «يغرد خارج سرب» الإصدارات المعتادة.
بعد تسع سنوات على تسلمكم منصب الإدارة العامة للمؤسسة، هل حققتم النقلة النوعية التي كنتم تصبون إليها بتحويل مؤسسة «الفكر العربي» إلى مؤسسة بحثية بامتياز؟
٭ ما أود قوله في هذا الصدد إن مسارنا لم ينته بعد، وإن كنا قد رسمنا الأطر والمرتكزات التي تسمح بذلك. فطموحنا كبير، ويستدعي جملة عناصر منها، فضلا عن العمل الجاد، الفريق البحثي المؤهل تأهيلا عاليا، والإمكانات المادية واللوجستية الكبيرة وغيرها الكثير من العناصر التي توافر بعضها ونحن في صدد استكمالها.
لكن، على الرغم من كل الصعوبات الذاتية والظرفية التي واجهتنا، بدءا من أزمة كورونا مرورا بالانتفاضة التي اندلعت شرارتها في 17 أكتوبر 2019 في لبنان، مقر مؤسستنا، والتي كانت مفصلا في تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي في البلد، وما رافق ذلك من أزمات كهرباء ومصارف وغيرها، أقول إننا نجحنا في المحافظة على ديمومة المؤسسة، وفي مواصلة تأدية الرسالة التي اضطلعت بها منذ إنشائها، وفي تحقيق الأهداف التي رسمناها. وقد تترجم هذا النجاح بنوعية التقارير التي صدرت إلى الآن والكتب الجماعية القيمة التي تناولت قضايا فكرية وثقافية وتنموية بموضوعية تامة، ومن دون الخروج عن الضوابط العلمية. فالنتائج والتوصيات التي خرجت بها مثل هذه الكتب والتقارير أفادت، كما هو مفترض ومتوقع من أي عمل بحثي، في التعرف بعمق إلى المشكلات التي تواجه مجتمعاتنا العربية، فلم تبق هذه التوصيات أو الطروحات حبيسة الأدراج، بل صبت في خدمة المجتمع. وثمة أمثلة كثيرة، ليس المجال الآن متاحا للخوض فيها بالتفصيل، حول إنجازات مركز البحوث في هذا الصدد.
تجدر الإشارة إلى أنه بانتظار استكمال الشروط التي تسمح لمؤسستنا بأن تتحول إلى مركز للدراسات والأبحاث وفق الصيغة المنشودة، قمنا بتوسيع شبكة إصدارات «أفق» التي أضحت تضم، فضلا عن الدورية الشهرية، أعدادا خاصة هي بمنزلة ملفات، وسلسلة كتب «أفق» السنوية التي تتناول موضوعات حيوية وراهنة تهم العالم العربي في حاضره ومستقبله، وهذه عينة من عناوينها: «المواطنة، التعددية، العروبة»، «الثقافة والمثقفون العرب: التحديات والمسؤولية»، «نحو إنسان عربي جديد»، «المدن العربية بين العراقة والاستدامة»، وسيصدر قريبا في هذه السلسلة كتاب بعنوان «القيم وتحولاتها اليوم: الأبعاد العالمية والمسارات العربية».
ماذا عن مؤتمر «فكر» السنوي، ماذا تحقق من خلاله عبر السنوات الماضية ومراكمة التجارب؟
٭ نظمت مؤسسة الفكر العربي حتى اليوم، في إطار مؤتمرها السنوي «فكر»، سبعة عشر مؤتمرا، في لبنان وفي مجموعة منوعة من الدول العربية الأخرى، وهي حاليا بصدد التحضير لمؤتمرها الثامن عشر.
لا يتسع المجال هنا لاستعراض عناوينها ومضامينها، حسبي الإشارة إلى أن موضوعات هذه المؤتمرات ومحاورها، والمداخلات التي ألقيت فيها، والمناقشات التي شهدتها جلساتها، فضلا عن الدراسات التي أصدرناها في سياق الإعداد لها أو بالتزامن مع انعقادها، تشكل وثائق مرجعية تمتاز بعمقها وغناها وموضوعيتها، كما تمتاز بجمعها بين التوصيف والتحليل والاستشراف.
ولا أظن أني أجانب الصواب إذا اعتبرت أن مؤتمر «فكر» السنوي حقق الكثير لناحية قدرته على جمع أكبر عدد من المفكرين والبحاثة والمثقفين العرب وغير العرب عموما، حول قضايا عربية راهنة، يطلق الحوار والنقاش حولها في ضوء تقاطعاتها الإقليمية والدولية. وهو ما يسهم في تحديد ما يحيط بمجتمعاتنا وبالمواطن العربي من إشكاليات طمعا برسم معالم بنائهما بناء جديدا.
كيف تخاطب المؤسسة النخبوية جيل الشباب في عصر التكنولوجيا والسوشال ميديا الذي قد يبعدهم عن قضايا الثقافة والفكر؟
٭ لابد من الإشارة، كاستدراك للسؤال السابق، إلى أن مؤتمر «فكر» السنوي حرص دوما على استقطاب الشباب، وعلى تخصيص حيز لهم عبر الندوات والفعاليات المختلفة التي كانت تقام في إطاره، وذلك كاستراتيجية نابعة من الإيمان بالطاقة الشبابية وبضرورة إطلاقها، لكونها رافعة التطوير والعنصر المحدد للصورة التي سيكون عليها المستقبل العربي. وأود التشديد على أن هذا الكلام ليس «شعاراتيا»، بل ترجم «استراتيجيا» في رسالة مؤسسة الفكر وغاياتها.
وتحقيقا لهذه الغايات، تتبع المؤسسة طرق التواصل الحديثة (فيسبوك، تويتر وغيرها) كأداة تواصل حديثة مواكبة للعصر لنشر ثقافة جادة. فنحن نعلم أن عصر الصورة والتكنولوجيا والسوشال ميديا يتيح وسائل ووسائط ذات حدين، بالإمكان استخدامها لإشراك الآخرين في ثقافة «التفاهة» بمقدار ما يمكن الاستفادة منها لإشراكهم في عملية التنوير وفي الثقافة الجادة.
كما عملنا على تعزيز حضورنا الرقمي الذي رأينا فيه أداة لمد جسور التواصل مع الشباب، فضلا عن تطوير وإغناء المحتوى الرقمي العربي. وتظهر أرقام المتابعين والمتفاعلين مع المحتوى الذي نقوم بنشره على شبكات التواصل اهتماما واسعا من قبل الشباب بالشؤون الثقافية والفكرية. وخلافا للفكرة الشائعة، فإن للشباب اهتماماتهم الفكرية أيضا، ودورنا يكمن في إيجاد لغة مناسبة لمخاطبتهم، وهذا ما نسعى إلى تحقيقه عبر حضورنا الرقمي.
ننتقل إلى الإصدارات، خصوصا الإصدار الخاص بفيروز الذي يتضمن مجموعة مقالات ودراسات وشهادات تتناول مختلف جوانب مسيرتها الفنية، بماذا يختلف هذا الكتاب عن باقي المؤلفات التي أصدرتموها، وهل تلقيتم منها أي تعليق أو تقييم بعد صدور الكتاب؟
٭ ربما يصح القول إن هذا الكتاب «يغرد خارج سرب» إصداراتنا المعتادة، إذ إن إصداراتنا في العادة، كما سبق وأشرت، غالبا ما تتناول قضايا فكرية وثقافية وتنموية. أما عن الكتاب المخصص للسيدة فيروز، فجاء تكريما لهذه الفنانة العريقة بمناسبة عيد ميلادها الثامن والثمانين، واحتفاء بصوتها الآسر وأدائها المتميز، فضلا عن كونه عربون شكر على ما انفكت أغانيها تغمر الآلاف منا بفيض خلاب ومحيي من المشاعر والذكريات والأحلام، وتحية تقدير إلى جميع الذين أسهموا في اكتشاف موهبتها الفريدة ورعايتها وصقلها، وفي إطلاق مسيرتها الفنية الاستثنائية.
لكن على الرغم من اختلاف موضوع الكتاب عن باقي الموضوعات التي نتناولها عادة، إلا أنه لم يخل من دراسات ومقالات تتسم بطابعها البحثي ومنحاها الأكاديمي ومضامينها الفكرية، فضلا عن تجاور «مناهج» التوثيق والتحليل والتقييم على امتداد صفحاته.
ونحن حين قمنا بمبادرة كهذه لم نكن نرمي إلى تلقي أي تعليق أو تقييم من السيدة فيروز، لأن هدفنا الأساس تمثل في الإضاءة على المشتركات الثقافية العربية التي تعبر عنها وتعكسها مسيرة فيروز والرحابنة، والتي لا تني مؤسستنا تدعو، وبإلحاح شديد، إلى إبرازها والبناء عليها في المشروع الهادف إلى تحقيق التكامل العربي المنشود.
ما المطلوب اليوم من المثقف اللبناني في ظل الأزمات التي يعانيها لبنان، علما أن البعض يعيب على المثقفين انفصالهم عن الواقع؟
٭ لا شك أن للمثقف اللبناني دوره الكبير في صناعة التغيير الاجتماعي والسياسي والفكري والثقافي، ولا يبرز هذا الدور على حقيقته، إلا في الأزمات المصيرية، والتي نحن في قلب حراجتها اليوم. وهي بمنزلة امتحان كبير له ليسهم، ولو من موقعه الفكري الفاعل والمتفاعل، في الحفاظ على وحدة بلده وشعبه، والوقوف بالتالي ضد كل فكر عصبوي طائفي أو مذهبي أو فئوي أنى كان. فمثل هذا الفكر العصبوي بوجوهه السلبية المختلفة، هو الذي يتم إذكاؤه والرهان عليه ـ من خارج ومن داخل.. لا فرق ـ لخراب المجتمع والوطن سواء بسواء.
وعندما أتكلم هنا على «المثقف» اللبناني، فأنا إنما أعني في الصميم ذلك المثقف المستوعب لواقعه بكل تناقضاته وصراعاته وتمثلاته التاريخية والحاضرة، والتي منها، أصلا، كون موقفه الناقد والحكيم للجميع من أجل مصلحة الجميع ودائما على قاعدة المواطنية والوطن الواحد الجامع.
وإذا كان مجتمع المعرفة هو حاضر المجتمعات المتقدمة كلها اليوم، فإنما هذا يعني أن على المثقف اللبناني أن يكون، باستمرار، في قلب المعرفة الجديدة، والبناء عليها لبلورة حالة فردية، ومجتمعية لبنانية عامة تصنع المستقبل وتقيم فيه.
ثم إن علاقة المثقف بالسياسي في عالمنا العربي يشوبها دوما هذا التنافر المسبق، إن لم نقل سوء التفاهم «المستدام». ومن هنا تراني أميل إلى ما طرحه ذات يوم المفكر المغربي الجدي د.علي أومليل الذي رأى في اختصار أن القضية ليست قائمة في «تجسير الفجوة» بين المثقفين وأصحاب القرار من السياسيين، بل السؤال هو: ما الذي يجعل هؤلاء «مضطرين» إلى الاهتمام بما يكتبه المثقفون؟ لكي يحصل ذلك لابد من شرطين: الأول أن يجد السياسي فيما يكتبه المثقف جدوى وضرورة، ولن يتأتى ذلك إلا إذا كانت كتابته خبيرة وموثقة، لا أن يكتب شعارات وعموميات وتذكيرا بالمبادئ وبمصلحة الشعب.
والشرط الثاني هو قوة رأي عام متشبع بقيم الحداثة، فالمثقف إذا ظل وجها لوجه أمام الحاكم، فهو مغلوب لا محالة، لابد له من رأي عام تستند إليه سلطته الفكرية، إذ لا سلطة له بغيره، فعليه أن يناضل من أجل تكوين رأي عام ديموقراطي متشبع بقيم الحداثة، لأن هذا شرط لتأكيد سلطته الثقافية. آنذاك لن يستجدي المثقف المعني أي حاكم لكي يهتم بما يكتب، لأن سنده الرأي العام، وهذا الرأي العام الفعال لا يتحقق إلا في مجتمع ديموقراطي، يستطيع خلاله المثقف أن يمارس حرية الكتابة.
كيف أثرت هذه الأزمات على نشاط المؤسسة، وهل درستم احتمال مغادرة لبنان بسببها، وهل يحمل البقاء فيه رسالة معينة في هذه الأوضاع؟
٭ الحقيقة أن تراكم الأزمات اللبنانية المستعصية على الحلول حتى الآن (بكل أسف طبعا)، فرض علينا تحديات جمة، ولكنه لم يؤثر على نشاط عملنا كمؤسسة فكرية عربية عاملة في بيروت، أولا لطبيعة عملنا الفكري والثقافي نفسه، فهو عمل في مجال الدراسات والبحوث وكتابة المقالات المعمقة، علاوة على إنتاج التقارير السنوية والكتب والإعداد للمؤتمرات الفكرية الدورية في غير عاصمة عربية.. وثانيا لأن مؤسستنا أهلية دولية مستقلة، وليس لها ارتباط بالأنظمة ولا بالانتماءات السياسية أو الحزبية أو الطائفية. ومنذ إنشائها في العام 2000 بمبادرة من صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، وبدعم من كوكبة من أهل الفكر وأصحاب المال، ورجال الأعمال، التزمت المؤسسة بتنمية الاعتزاز بثوابت الأمة ومبادئها وقيمها وبتعزيز التضامن العربي والهوية العربية الجامعة لغنى التنوع والتعدد، وذلك بنهج الحرية المسؤولة. فوق هذا وذاك، لقد تم اختيار بيروت مقرا لمؤسسة الفكر العربي بقرار اتخذه رئيسها وأعضاء مجلس أمنائها في اجتماعهم التأسيسي، نظرا لدور بيروت وموقعها على الصعيد الفكري والثقافي، ومازال هذا القرار ساري المفعول.
ثم إن بيروت تستحق منا كمثقفين ومشتغلين بالحقل الفكري والثقافي العربي العام كل تقدير وتكريم، لأنها فعلا عاصمة العرب الثقافية بقرار من العرب أنفسهم أولا، ثم فيما بعد بإعلان من «اليونسكو» على لسان مديرها فيديريكو مايور في العام 1999. أما أول من سماها عاصمة للثقافة العربية، فكان الروائي والمفكر الليبي الكبير الصادق النيهوم.. كان ذلك في العام 1974.
وثمة شعراء عرب أطلقوا على بيروت تسميات مماثلة، وربما أوسع من مصطلح «عاصمة ثقافية» كالشاعر نزار قباني الذي قال فيها قصيدة شهيرة حملت عنوان: «يا ست الدنيا يا بيروت» في العام 1981.
كما أن الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف، الذي عاش حصار بيروت في العام 1982، قد قال هو الآخر للشاعر اللبناني محمد العبدالله في حوار شهير أجراه معه في وسط ألسنة النار المتدفقة من مدافع الجو والبحر: «بيروت عاصمتنا.. بيروت عاصمة الشعر العربي».
أما بخصوص أن يكون بقاؤنا كمؤسسة في بيروت الجريحة اليوم، يحمل رسالة معينة (وهي، على أي حال رسالة ثقافية في المقام الأول والأخير) فهو أمر متروك تقديره للآخرين. حسبي أن أشير إلى أنه يحلو لنا في المؤسسة أن نردد مع غسان تويني، أحد أبرز أعلام الفكر والصحافة في العصر الحديث، عبارته الشهيرة «الوطن ليس فندقا، عندما لا تعجبك الخدمة فيه تغيره».