لا شك أن العلماء العرب استفادوا كثيرا من الكتب العلمية اليونانية وغيرها التي ترجمت إلى اللغة العربية ابتداء من القرن الثالث الهجري، وهو الأمر الذي ساعدهم كثيرا على أن يتسعوا في علم «الميكانيك» الذي ظهر لأول مرة في مؤلفات ارسطو، فصنعوا كثيرا من الأجهزة والأدوات التي استخدموها في الحياة العلمية والعملية وضمنوها في كتبهم التي عن طريقها أمكن دراسة التراث العلمي بالطبع.
ولعل أهم هذه الكتب كتاب الحيل، أو ما يعرف باسم (حيل بني موسى) نسبة إلى أبناء موسى بن شاكر أحمد ومحمد والحسن، خلال القرن التاسع الميلادي فالأب موسى بن شاكر كان ممن يهتمون بشؤون الفلك في بلاط المأمون، وكان لأبنائه جهد كبير في تنشيط حركة نقل الكتب من بلاد الروم والإنفاق على ترجمتها والانتفاع بها، وكان أشهرهم في عمل الحيل الابن أحمد، الذي أتاح لأبناء موسى أن يكونوا هم أول من أطلق من العرب اسم علم الحيل (علم الميكانيك) وذلك لريادتهم فيه من كافة النواحي سواء في الترجمة أو التأليف أو الإبداع. ومما يؤكد ذلك أنهم رددوا اسم الحيل مرات عديدة وذلك للدلالة على أسلوب التغلب على مشكلة ما وتذليل بعض الصعوبات.
ولعل من أبرز أنشطة أبناء موسى في الترجمة أن أسند إليهم الخليفة المأمون مهمة الإشراف على قسم الترجمة في بيت الحكمة وقد أتقن اكبر الإخوة (محمد) الهندسة والفلك وتفوق أحمد في الحيل، أما الحسن فكان شديد الاهتمام بالهندسة واشترك الثلاثة في تأليف كتاب الحيل النافعة، وكتاب القرطسون وهي كلمة تعني ميزان القبان، وكتاب وصف الآلة التي تزمر بنفسها صنعة بني موسى بن شاكر. ومن اختراعاتهم المبهرة التي وصفها المؤرخون بكثير من الإعجاب آلة الرصد الفلكي الضخمة وتعمل في مرصدهم وتدار بقوة دفع مائية، وهي تبين كل النجوم في السماء وتعكسها على مرآة كبيرة، وإذا ظهر نجم رصد في الآلة وإذا اختفى نجم أو شهاب رصد في الحال وسجل.
ورغم أن الأبناء الثلاثة كانوا أعجوبة زمانهم إلا أن أحمد قد اشتهر بأنه أعجوبة العائلة ونابغة زمانه، حيث ابتكر أجهزة ميكانيكية عجيبة، وأشياء مبهرة بديعة واخترع أجهزة عملت غاية الفائدة بالمنزل، ومن بينها ألعاب ميكانيكية سلوة وسعادة وراحة لأفراد الأسرة، وهو يصف ابتكاراته بأنها أوضاع غريبة وأشياء عجيبة في جر الأثقال وكلها عملت بالطليات والبكرة، ومن بين ابتكاراته الميكانيكية أجهزة تمتلئ تلقائيا كلما فرغت من السوائل، وقناديل ترتفع فيها الفتائل تلقائيا ويصب فيها الزيت أيضا تلقائيا كلما أتت النار على جزء من فتائلها ولا تطفئ الرياح العاتية ضوءها، وآلات لخدمة الزراعة والفلاحة مثل المعالف الخاصة لحيوانات ذات أحجام خاصة تتمكن من أن تصب مأكلها ومشربها بنفسها فلا تنازعها غيرها الطعام والشراب. وعمل خزانات للحمامات وآلات لتقيس كثافة السوائل، وابتكر آلة ميكانيكية تثبت في الحقول وتصدر أصواتا خاصة من ذاتها كلما ارتفع مستوى الماء في الحقول لكيلا تضيع كميات الماء هدرا، ويمكن بواسطتها السيطرة على عملية ري المزروعات.
وكذلك اخترع أحمد بن موسى نافورات مياهها على أشكال مختلفة وصور متباينة، وقد ضمن اختراعاته في كتابه الموسوم «حيل بني موسى» ويتجاوز المائة اختراع، وهو الأمر الذي دفع مسيرة علم الحيل قدما إلى الأمام حيث تميزت تصاميمها بالخيال الخصب والأفكار العلمية التي تبرز الدقة والتعمق والموضوعية والنضج العلمي وحسن وإتقان مناهجه المختلفة مما يعكس ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية من استيعاب لعلوم من سبقوهم، وإسهامهم في هذه العلوم بما يلزم معه الفخر بهذه الحضارة.
عسى أن نــقتدي بهـــؤلاء حتـــى يجد كــل فرد منا طريقة لبناء حضارة إسلامية نعيد بها مـــجد الأجداد ونكون خير أحفاد لهم بدلا من الاعتماد على موائد غيرنا دون مشاركة منا إلا بدور المستهلك المنبهر بما تسوقه حضارة الغرب إلينا.