بيروت ـ بولين فاضل
ليس تفصيلا في واقع البلد أن يكون لبنانيو الخارج والمتحدرون من أصل لبناني أكثر من لبنانيي الداخل، وأن يقدر عدد المنتشرين في العالم من أصول لبنانية بنحو 12 مليونا، وهذا رقم كبير جدا قياسا إلى بلد صغير المساحة.
وحين يسود الحديث العلمي عن هجرة اللبنانيين لوضعها في إطارها الزمني، فإنه يبدأ بمحطة هامة هي منتصف القرن التاسع عشر الذي شهد لبنان خلاله أولى موجات الهجرة، وتحديدا في العام 1858 على خلفية أول حرب أهلية في لبنان، قبل أن يعرف بين 1880 وبداية الحرب العالمية الأولى موجة ثانية من الهجرة بفعل الانكماش الاقتصادي والبطالة وانهيار اقتصاد الحرير.
كانت الوجهة أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية، حيث فرغ جبل لبنان من أكثر من 40% من سكانه. ثم تجددت الهجرة في فترة الانتداب الفرنسي على لبنان، وسلكت طريقها إلى الولايات المتحدة والمستعمرات الفرنسية في أفريقيا. كما كانت موجة أخرى في اتجاه دول الخليج في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، وهي لاتزال مستمرة حتى اليوم لدوافع اقتصادية أو أمنية أو حتى ربطا بحب المغامرة.
وإذا كان لبنان واثر الانهيار الاقتصادي والمالي في العام 2019 قد عرف فصلا حزينا جديدا من فصول خسارة أبنائه وطاقاته الشبابية، فإن الحرب الأخيرة فعلت بدورها فعلها، فرحل من رحل من لبنان وبقي من بقي.
وبحسب أرقام «الدولية للمعلومات»، فإن عدد الذين هجروا لبنان في العام 2024 بلغ 172.722 مهاجرا و186.133 في العام 2023، وفي حصيلة للسنوات بين 2012 و2024، الرقم هو 800 الف مهاجر، أي بمتوسط 64 الفا في السنة الواحدة، وهذا رقم غير مسبوق وكبير جدا لاسيما أن 70% من المهاجرين هم من الفئات الشابة، ما يعني أن لبنان هو أمام نزيف بشري يهدد مستقبله.
ومع بدء عهد رئاسي جديد، تعهد الرئيس جوزف عون في خطاب القسم أن «يفتخر كل مغترب بلبنان كما يفتخر لبنان بمغتربيه، فيعود منهم من يرغب ومن يقدر وتتحول الهجرة الدائمة إلى فكرة عابرة لا حاجة لها». والسؤال: هل بات من أمل ببدء الهجرة العكسية إلى لبنان؟ وهل لبنان اليوم بحاجة أكثر لمغتربيه في داخله، وهم الذين شكلوا على مر التاريخ بأموالهم وتحويلاتهم جزءا أساسيا من الاقتصاد اللبناني؟
المدير التنفيذي لملتقى التأثير المدني والباحث في السياسات العامة وشؤون الهجرة واللجوء زياد الصائغ قال في حديث إلى «الأنباء» إن «الاغتراب اللبناني يشكل ثقلا سياديا إصلاحيا في الشأن الوطني اللبناني، ولابد من الانخراط الاستراتيجي في تفعيل عمل اللوبي الذي يشكله على مستوى الخارطة العالمية، وهذا ليس بلوبي اقتصادي ـ مالي حصرا، وهنا بيت قصيد تصويب مفهوم دور الاغتراب اللبناني في الشأن الوطني».
وأضاف: «الاغتراب اللبناني أو كما يحلو للبعض تصنيفه بالانتشار كما الدياسبورا، وفي كل من هذه المصطلحات على تقاطعها ميزة خاصة ربطا بالسياسات العامة، هذا الاغتراب ليس ماكينة ضخ مالي، ومن المعيب الاستمرار بمقاربته بهذه السردية. هذا الاغتراب معني بصون الهوية اللبنانية التأسيسية وصيغتها الحضارية في الحرية والتنوع والإبداع. من هنا أولوية بناء استراتيجية تواصل فاعلة مع الاغتراب من جهة، كما مأسسة الاغتراب من ضمن بناء سياسة أمن قومي للدولة اللبنانية من جهة أخرى، لكون الاغتراب مؤسسا فاعلا ومؤثرا في أي سياسة خارجية سيادية إصلاحية للبنان».
وأكد الصائغ أن «هذا الاغتراب يحتاج دينامية وطنية متماسكة ولا يمكنه أن يحل مكانها، بل أن يتكامل معها مع ضرورة استعادة نماذج ومسارات تنسيقية برزت مع لجان التنسيق اللبنانية-الأميركية (LACC)، والفرنسية (CCLF) والكندية (CCLC)، والسويسرية (LSCC)، في السنوات الخمس الأخيرة، تلاقت فيها قوى حزبية سيادية إصلاحية مع قوى مجتمعية حية مستقلة، والتجربة واعدة ويقتضي تطويرها».
وعن خطاب القسم للرئيس عون وإشارته إلى الاغتراب، قال الصائغ: «ما أورده الرئيس عون استثنائي لجهة تثبيت الهوية الوطنية الجامعة بين لبنان المقيم ولبنان المغترب، بالاستناد إلى موجبات تفرضها المصلحة الوطنية العليا»، معتبرا أن «هذا الأمر يمهد لإمكانية استعادة الثقة بلبنان الدولة، كما يبشر بإمكانية عودة المغتربين خصوصا أولئك الذين غادروا في الأعوام الخمسة الأخيرة».
وأضاف: «في الوقت نفسه، تقوم استقامة هذه المعادلة على سياسة عامة اغترابية أبعد من تسطيح يتعلق بالاستثمارات والدعم المالي، بل بإعادة ترميم المساحة الوطنية الكاملة تحت سقف الدستور والشرعية ودولة المواطنة. الأساس ليس عودة المغتربين حصرا، بل استعادة دورهم الوطني مع تحذيري من التركيز على السرديات النفعية».