لم يكن مفهوم العمل من المنزل جديدا عند تفشي وباء فيروس كورونا، لكنه لم يكن أكثر إلحاحا قبل ذلك الوقت، حيث وجد الناس أنفسهم تحت حصار القيود الاجتماعية والمخاوف الصحية في كل مكان من العالم، وكان على الشركات التكيف مع هذا الوضع لبعض الوقت.
غير أنه، وبعد عام ونصف العام منذ ظهور الفيروس القاتل، خاضت خلاله الشركات والموظفون نقاشات واسعة حول مزايا وعيوب هذا النظام وإمكانية استمرار العمل به في عصر ما بعد الوباء، ظهرت الحاجة إلى نظام يوازن ما بين الطريقة التقليدية وتلك الجديدة.
ومع تسارع حملة التطعيم حول العالم، والتنبؤ بقرب عودة الحياة إلى طبيعتها، يتوقع الكثير من المحللين والمديرين التنفيذيين أن يكون «النظام الهجين» هو الاتجاه الجديد لدى الشركات في تشغيل القوى العاملة، بما يحقق التوازن بين الراحة النفسية والبدنية للموظفين وبين قرب المؤسسات من العاملين لديها وتوفير النفقات.
والنظام الهجين هو الذي يجمع بين تشغيل الموظفين من المنزل لبعض الوقت ومن ثم استدعاؤهم إلى المكاتب، أو قد يتم ذلك عن طريق تشغيل بعضهم باستمرار من المنزل مع الإبقاء على الآخرين في المكتب، أو ربما يكون مزيجا بين هذا وذاك، المهم أنه يجمع بين العمل من المنزل ومن المكتب.
في هذا الإطار، يقول المدير التنفيذي لشركة مساحات العمل المشتركة «آي دبليو جي» مارك ديكسون إن نظام العمل الهجين سيكون الوضع الطبيعي بالنسبة لشركات عدة بعد الجائحة، حيث تتطلع هذه الشركات إلى توفير المال وأن تصبح أكثر صداقة للبيئة.
ومع ذلك، لا يبدو أن عالم العمل الجديد هذا يروق لجميع قادة الأعمال، وبعضهم يقاومه بشدة ويرفض هيمنته لما يعتقدون أنها سلبيات قد تضر بعمليات الشركات.
صدام الموظفين والإدارات
بسبب مقاومة الموظفين القوية وارتفاع معدل الرحيل، تراجعت «غوغل» مؤخرا عن خطتها لإعادة جميع الموظفين إلى المكتب وسمحت للكثيرين بالعمل عن بُعد، فيما تسببت خطة «آبل» لإجبار موظفيها على العودة إلى المكتب على ترك الكثيرين للشركة وأدت إلى معارضة داخلية كبيرة.
وأطلق مصرف «دويتشه بنك» سياسته الجديدة للعمل عن بُعد، وتعهد بتنفيذ نموذج هجين للموظفين بمجرد أن تسمح الظروف الوبائية بالعودة إلى المكاتب، وسيسمح المقرض الألماني للموظفين بتقسيم ساعات عملهم بين المكتب ومنزلهم.
وأعلنت شركات المحاسبة الكبرى في بريطانيا مثل «إرنست يونج» و«كيه بي إم جي» و«برايس ووتر هاوس كوبرز»، خططها الخاصة لتطبيق نظام العمل الهجين على موظفيها خلال فترة ما بعد الوباء.
وكشفت جميع الاستطلاعات الشاملة والمتعمقة من أوائل ربيع عام 2021 والتي سألت آلاف الموظفين عن تفضيلاتهم عند العودة إلى المكتب بعد الوباء، عن رغبة قوية للعمل من المنزل بعد الجائحة على الأقل نصف الوقت، وذلك وفقا لأكثر من ثلاثة أرباع جميع المشاركين.
ورغب ربع إلى ثلث المستطلع آراؤهم في العمل عن بُعد بدوام كامل بشكل دائم، فيما قال ما بين 40% و55% إنهم سيستقيلون حال لم تكن هناك خيارات دائمة للعمل عن بُعد لمدة نصف أسبوع على الأقل، من بين هؤلاء، سيغادر الكثيرون إذا لم يسمح لهم بالعمل عن بُعد بالكامل.
وأعرب موظفو الأقليات عن تفضيلهم القوي بشكل خاص للعمل عن بعد لتجنب التمييز داخل المكتب. ومع ذلك، يعتزم العديد من أرباب العمل إجبار موظفيهم الذين يمكنهم العمل بسهولة عن بُعد على العودة إلى المكتب لجزء كبير من أسبوع العمل أو كله.
وكثيرا ما يعلن قادة الأعمال أن القوى العاملة هي أهم مواردهم، ومع ذلك فإن القادة المعارضين للسماح بالعمل عن بُعد لا يلتزمون بهذا المبدأ، ويفعلون فقط ما يشعرون بالراحة تجاهه، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير معنويات الموظفين ومشاركتهم وإنتاجيتهم.
والأكثر من ذلك، أنهم (المديرين) يضغطون في هذا الاتجاه حتى لو أدى إلى تقويض بشكل خطير للقدرة على الاحتفاظ بالموظفين وتعيين جدد، والإضرار بالتنوع والشمول. وفي النهاية، يمثل سلوكهم تهديدا كبيرا للأداء.
التحيز المعرفي
بعد إجراء مقابلات مع 61 من القادة من المستوى المتوسط والكبير حول هذا السؤال في 12 شركة ساعدت في تطوير نهج استراتيجي للانتقال مرة أخرى إلى المكتب، يظهر سبب مقاومتهم للخيار الأفضل الذي يبدو واضحا، وهو التحيز المعرفي.
التحيزات المعرفية هي نقاط عمياء ذهنية تؤدي إلى ضعف اتخاذ القرارات الاستراتيجية والمالية، لكن لحسن الحظ، فمن خلال فهم هذه التحيزات المعرفية واتخاذ خطوات قائمة على البحث لمعالجتها، يمكن اتخاذ أفضل القرارات.
يشعر الكثير من الناس بالرغبة في الحفاظ أو العودة إلى ما يرون أنه الوضع المناسب وطريقة القيام بالأشياء، وأحد العوامل الرئيسية في رغبة القادة في عودة الجميع إلى المكتب ينبع من عدم ارتياحهم الشخصي للعمل من المنزل.
لقد أمضوا حياتهم المهنية محاطين بأشخاص آخرين، ويريدون استئناف السير بانتظام، محاطين بالموظفين العاملين، إنهم يقعون في فخ ترسيخ التحيز، هذه النقطة العمياء العقلية تجعل البشر يشعرون بالارتباط بتجاربهم ومعلوماتهم الأولية.
إن الدليل على أن العمل من المنزل يعمل بشكل جيد بالنسبة للغالبية العظمى لا يجعلهم يغيرون وجهة نظرهم بأي طريقة مهمة، ويوفر «التحيز التأكيدي» تفسيرا مهما لهذا التناقض الظاهري، حيث ان الذهن البشري ماهر في تجاهل المعلومات التي تتعارض مع معتقداته، والبحث فقط عن المعلومات التي تؤكدها.
مخاوف منطقية
رغم حقيقة تأثير «التحيز المعرفي»، فهذا لا ينكر حقيقة أخرى مهمة، وهي أن هؤلاء المديرين لديهم مخاوف مشروعة، مثل تزايد الاستياء، فعندما يبدأ العمال عن بعد في الشعور بالإهمال، سيفقدون الدافع، وقد لا يعرف رئيسهم، لأنهم لا يرون الشخص كل يوم.
وسيكون هناك أيضا نظام من مستويين، حيث من الطبيعي أن يشكل الأشخاص في المكتب روابط متماسكة، وعلى سبيل المثال بعد انتهاء حدث مثل هذا الوباء، قد يكون للمكتب طابع احتفالي والاستعداد لحقبة جديدة ومثيرة، وسيكون هناك شعور بالصداقة وروح الجماعة.
وسيبدأ العمال عن بعد في الشعور بالإهمال، وليس من المحتمل أن تقوم مجموعة من زملاء العمل الذين اجتمعوا في جلسة عصف ذهني سريعة بإيقاف كل شيء والتفكير في الأشخاص الذين يجب تضمينهم أيضا.
ولن يكون الأشخاص في المكتب، الذين سئموا وتعبوا من مكالمات الفيديو، متحمسين جدا لفقد الزخم ومحاولة العثور على الآخرين الذين يجب أن يكونوا على اتصال، سيواصلون من دونهم ويقولون إنهم سيتابعون معهم بسرعة لاحقا، وهو ما قد لا يحدث.
ومع ذلك، هناك اعتقاد سائد بين المديرين بأن الحضور إلى المكتب والعمل لساعات طويلة أهم من النتائج، وأظهرت الدراسات أن العمال عن بعد تلقوا ترقيات أقل ومكافآت أقل مقارنة بأقرانهم في المكتب.