تشكل العلاقات التركية ـ الأميركية الاستراتيجية، حاجة فعلية للطرفين، رغم ما شابها من توتر على مدى سنوات.
ففيما كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة ترى في تركيا دولة وظيفية تؤدي ما يطلب منها حتى لو لم يكن ذلك مطابقا لمصالحها، تبدو تركيا، خصوصا خلال العقدين الأخيرين تحت قيادة «حزب العدالة والتنمية»، حريصة على نوع من الاستقلالية في قراراتها، التي تنتهج استراتيجية قائمة على الانفتاح على جميع القوى العالمية النافذة، مع تحقيق قدر من التوازن بينها.
وقد نجحت أنقرة إلى حد كبير في تطبيق استراتيجية التوازنات، مما أهلها لتصبح قوة إقليمية، ولاعبا رئيسا في عدة ملفات معقدة، لاسيما الملفان السوري والليبي، اضافة إلى القوقاز والبلقان.
لكن ثمة مشكلات ذات طابع إستراتيجي شكلت على الدوام من وجهة نظر البلدين، مصدر تهديد جدي للعلاقات بين البلدين، يضاف إليها توترات أقل أهمية. ومن اهم هذه الملفات الخلافية:
٭ أولا: لعل أهم هذه المشكلات، اختلاف تقديرات البلدين بخصوص ترتيبات الأمن في المنطقة، ويقع على رأس هذه التباينات تقع مسألة دعم واشنطن لحزب العمال الكردستاني (بي كا كا) المصنف في أنقرة «إرهابيا» هو وفروعه في سورية بمختلف المسميات، واتخاذها شريكا استراتيجيا في الحرب على الإرهاب.
وتعتقد أنقرة أن الأميركان لا يبالون بالأمن القومي التركي، ولا يكترثون لما سبق ان مثلته هذه الميليشيات الانفصالية من تهديد إرهابي، كلف تركيا خلال ثلاثة عقود أكثر من تريليون دولار، وتسبب في مقتل ما يقارب أربعين ألف شخص.
٭ ثانيا: يأتي دعم الكيان الموازي، حيث ما تزال واشنطن تصر على عدم تسليم فتح الله غولن، المتهم الأول بترتيب محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016، رغم جميع الأدلة التي قدمتها أنقرة لواشنطن بهذا الخصوص.
٭ ثالثا: التجاهل الأميركي لمطالب تركيا بتأمين احتياجاتها الدفاعية الاستراتيجية، وكأنها تابع لا حليف إستراتيجي، ورفض مطالب التسليح التركية من الغرب، قبل أن تتجه لروسيا لشراء منظومة الدفاع الصاروخي «اس 400».
٭ رابعا: قرار إدارة الرئيس جو بايدن بإخراج تركيا من مشروع طائرات F35، بالرغم من وفاء أنقرة الكامل بجميع التزاماتها تجاه المشروع.
٭ خامسا: قضية المصرفي التركي هاكان أتيلا، الذي احتجزته السلطات الأميركية في 27 مارس 2017، بتهمة خرق العقوبات الأميركية على إيران، وحكم عليه القضاء الأميركي بالسجن لمدة 32 شهرا، ثم أفرجت عنه بعد 28 شهرا، وسلمته الى تركيا.
سادسا: بعد توليه منصبه بثلاثة أشهر، أجرى الرئيس بايدن، الذي تحدث عن دعم المعارضة لإسقاط أردوغان في حملته الانتخابية، اتصالا هاتفيا بنظيره التركي ليبلغه بإقراره بما يسمى «الإبادة الجماعية للأرمن»، مخالفا أسلافه من الرؤساء الأميركيين السابقين الذين حرصوا على تجنب استخدامه، مراعاة لعلاقات الشراكة الاستراتيجية مع أنقرة.
ورغم نقاط الخلاف، تظل تركيا أحد المفاتيح المهمة للسياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان، انطلاقا من الدور المهم لأنقرة كنافذة على محاور وبلدان ذات أهمية خاصة بالنسبة لواشنطن مثل إسرائيل والعراق وإيران وسورية وأرمينيا وجورجيا وأذربيجان، ودورها المحوري في حفظ الاستقرار في الحزام الممتد من وسط أوروبا حتى تخوم الهند وروسيا.
في المقابل، يمكن إجمال نقاط الخلاف والاتفاق من وجهة نظر واشنطن على الشكل التالي:
٭ أولا: تحول البوصلة التركية نحو روسيا، حيث أثار شراء تركيا لمنظومة «اس400» الروسية مخاوف حقيقية لدى واشنطن، من انحراف تركيا باتجاه المحور الروسي المعادي لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتطور العلاقة بينهما إلى مشاريع استراتيجية عملاقة في مجالات الطاقة النووية وتعاون في سورية وارتفع مستوى التبادل التجاري بينهما إلى أرقام قياسية.
ترى الولايات المتحدة ومعها الدول الأعضاء في حلف «الناتو»، شراء تركيا للمنظومة الروسية تهديدا محتملا للأمن الجماعي الأوروبي، فيما ترى أنقرة أن دول الناتو خذلتها أثناء تدهور علاقاتها مع روسيا على خلفية إسقاط الطائرة الحربية الروسية على يد ضباط أتراك من تنظيم الكيان الموازي.
٭ ثانيا: الصناعات الحربية التركية، حيث قطعت تركيا شوطا بعيدا في تطوير صناعاتها الحربية، من حيث المبدأ لا ترى واشنطن بأسا في ذلك، لكن الأدوار العسكرية التي قامت بها الطائرات المسيرة «بيرقدار» في ليبيا وسورية وأذربيجان أذهلت المراقبين العسكريين والسياسيين معا، وأصبحت كثير من الدول تنظر إلى تركيا كمنافس قوي في مجال الصناعات العسكرية.
٭ ثالثا: دور تركيا بالقوقاز، إذ ترى الولايات المتحدة تركيا شريكا استراتيجيا، يلعب دورا مهما في خدمة المصالح الأميركية بمنطقة القوقاز وآسيا الوسطى، يتمثل في مواجهة روسيا.
وأدى التحول في الاستراتيجية الأميركية، من مواجهة روسيا إلى مواجهة الصين، ومحاولة إبعاد موسكو عن بكين، أدى إلى زيادة حاجة الولايات المتحدة الأميركية إلى التحالف مع تركيا.
٭ رابعا: دعم أوكرانيا، وتدعم الولايات المتحدة العلاقات الاستراتيجية المتطورة بين تركيا وأوكرانيا، وترى تلك العلاقات مدخلا مناسبا لإقحام أنقرة في الملف الأوكراني الساخن، المرشح للانفجار في أي وقت.
ويشكل الملف الأوكراني أحد خطوط التماس بين الولايات المتحدة وروسيا، خصوصا بعد قيام الأخيرة باحتلال شبه جزيرة القرم.
٭ خامسا: الانفتاح التركي على القارة الافريقية، ولأن الوجود الأميركي في القارة السمراء ضعيف، وخياراتها هناك محدودة، فهي بحاجة إلى شريك استراتيجي موثوق. لهذا السبب، تدعم واشنطن وجود تركيا وتمددها في القارة السمراء بمواجهة الانتشار الصيني، على عكس الدور الفرنسي والأوروبي غير المرغوب والمنبوذ افريقيا، والذي لا يستطيع الصمود أمام التنين الصيني.
٭ سادسا: إشراك تركيا في الصراع مع إيران، الذي يعقد الموقف الأميركي تجاه أنقرة، مع ما تبديه من تمسك بعلاقاتها مع طهران رغم العقوبات الأميركية.
٭ سابعا: التحذيرات الأميركية بشأن الديموقراطية وحقوق الإنسان، حيث هناك دعايات سلبية، وعمليات شيطنة لتركيا في الولايات المتحدة تتهم أنقرة اللوبيات الصهيونية، وجماعة غولن بالوقوف وراءها.
٭ ثامنا: تصريحات أردوغان تجاه إسرائيل بسبب فلسطين، في ضوء سعي أنقرة لزيادة نفوذها وتأثيرها في العالم الإسلامي، وقد أدى إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل إلى مواجهة سياسية وديبلوماسية بين البلدين.
وتمثل العلاقات التركية المتوترة مع تل أبيب أحد أهم دوافع القلق الأميركي من تركيا، خصوصا مع تنامي العلاقات بين حكومة «حزب العدالة والتنمية» وحركة «حماس» الفلسطينية.
تولي أنقرة أهمية بالغة للتحالف مع واشنطن، الذي يعود تاريخه إلى أعوام طويلة، وقد نجحت علاقات الشراكة والتحالف بين البلدين في التغلب على جميع أنواع التحديات.
ورغم ظروف جائحة كورونا، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا والولايات المتحدة خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام 2021، أربعة مليارات و272 مليون دولار، فيما وصلت الاستثمارات الأميركية المباشرة في تركيا إلى 13 مليار دولار، وبلغت استثمارات الشركات التركية في الولايات المتحدة 7.2 مليارات دولار. وقد تم تحديد الحجم المستهدف للتجارة مع الولايات المتحدة بمبلغ 100 مليار دولار.
بالتأكيد لا توجد عصا سحرية تنهي الخلافات، إنما بالإمكان تحييد المواضيع الخلافية التي توتر العلاقات بين البلدين، والتركيز على القواسم المشتركة القائمة على المصالح المشتركة، وبناء آلية لإدارة المواضيع الشائكة.
ولأن البلدين لا يملكان خيار الطلاق البائن والتخلي عن خدمات بعضهما البعض، فهما مضطران للتركيز على المساحات المشتركة ومجالات التعاون وطرق حل المشاكل العالقة.