- مجلة البعثة وثّقت صلتي وصداقتي مع قامات عظام وتولى مركز البحوث والدراسات إعادة طبعها كاملة منذ عددها الأول
- العدد الأول تضمن وصفاً جيداً لقصر بيان المبني على مرتفع يشرف على قرية حولي ذات الهواء الطيب والزهور والأعشاب البرية
- البحار الشهير ألن فاليارس وثّقت «البعثة» مقاله عن الكويت ونظام الحكم فيها وأجواء العمل البحري ونشاط النواخذة
- المجلد الأول حوى طرفة ممتعة كتبها الشيخ جابر العبدالله عندما كان طالباً في القاهرة حول الرسام الفرنسي في أحد المطاعم
- أحمد العدواني وحمد الرجيب تعاونا في كتابة أشعار مقلدة لمنظومات معروفة ويميلان إلى ما يجلب الطرافة تحت مسمى «العدرجيبي»
بقلم :د.يعقوب يوسف الغنيم
إن أهم ما تتناوله المسامرات من الأحاديث إضافة إلى الحكايات والنوادر والأشعار ما يندرج تحت مُسَمَّى: الذكريات، التي أطلق عليها أمير الشعراء أحمد شوقي صفة: صدى السنين الحاكي حين تحدث عن بلدة زحلة اللبنانية الجميلة فقال:يا جارةَ الوادي طَرِبْتُ وعادني
ما يُشبهُ الأحلامَ مِنْ ذِكراكِ
مَثَّلْتُ في الذكرى هواكِ وفي الكرى
والذكرياتُ صدى السنين الحاكي
فقد أذكرته زحلة أياما جميلة مضت له في شبابه، فراح يعبر عن مشاعره تجاهها، مبِّينا أن زحلة هي التي أثارت له تلك الذكريات.
ولئن كانت تلك البلدة مثار ذكريات هذا الشاعر الكبير، فإن لكل إنسان ما يثير ذكرياته التي تسجلها ذاكرته خلال ماضيه.
وقديما كانت أطلال المنازل تستثير الشعراء العرب، وتدفعهم إلى إنشاد أجمل قصائدهم في ذكرها، وفي ذكر من يحبونه ممن سكن فيها وقت عمرانها، ألم يقل ذلك الشاعر العربي:مررت على الديار ديار ليلى
أُقبّل ذا الجدارَ وذا الجدارا
وما حبُّ الدِّيار ملكن قلبي
ولكن حبُّ من سكن الدِّيارا
وتثير ذكرياتي - اليوم - مجلة كُنْبُ أُمضي في قراءتها أجمل أوقاتي، وكنت انتظر صدورها شهراً بعد شهر لِمَا أجده فيها من فوائد، ولما تتطرق إليه من أخبار وطني وتطلعات أبنائه.
تلك هي مجلة «البعثة» التي كانت تصدر عن بيت الكويت بالقاهرة بصفتها نشرة ثقافية صدر أول عدد منها في شهر ديسمبر لسنة 1946م وهو زمن قريب من زمن افتتاح بيت الكويت وكان هذا في سنة 1945م وهذا معناه أنها كانت من أول الأعمال التي قام بها هذا البيت الذي كان يديره منذ البداية الأستاذ عبدالعزيز حسين، وقد استمر رئيساً لتحرير هذه النشرة حتى أواخر سنة 1950م، ثم حمل رايتها الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري، ففتح لكل الكُتّاب العرب مجال الكتابة فيها، إضافة إلى ما كان يقدمه لها طلاب الكويت هناك.
وما يرسله إِليها كتاب الكويت وشعراؤها. وبهذا ازداد عدد قرائها، وكبُر حجمها، وصارت تتناول موضوعات أكثر تنوعاً من موضوعات بدايتها، وهذا أمر منتظر.
ومر زمن، وتغيرت أوضاع أدت إلى توقف هذه المجلة بعد ذلك الدأب الذي اتصف به كلُّ من الأستاذ عبدالعزيز حسين والأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري وأبناء الكويت الذين كانوا يَتَلَّقوْن العلم في القاهرة. وقد صدر آخر عدد منها في شهر أغسطس لسنة 1954م، وهي السنة الثامنة لصدورها.
ومن ناحيتي، فإنني حتى يومنا هذا أُكْثِرُ العودة إلى أعدادها فأقرأها وأسعد بذلك، واسترجع ذكرياتي معها، ذلك لأنني في أثناء القراءة أُحسُّ وكأنني أعيش في ذلك الزمان الذي تأتيني فيه المجلة طازجة ممتلئة بتطلعات إخوة لي من أبناء الكويت، وآمالهم في العودة بعد استكمال دراستهم لِكيْ يُسْهِموا في بناء نهضة وطنهم، ويقوموا بخدمة أهاليهم.
ومن حسن حظي أنني صرت - فيما بعد - على صلة تامة ووثيقة مع كثيرين من أولئك الذين قرأت لهم، وعرفتهم بأسمائهم عن طريق مجلة البعثة ثم عرفتهم بأشخاصهم فيما بعد.
وكان - ولايزال - لي اعتزاز بكل من ربطتني به منهم رابطة صداقة، أو مع الصداقة زمالة عمل، وما أسعدني وقد عرفت وزاملت من كتاب ذلك العهد الأساتذة:
- عبدالعزيز حسين.
- عبدالله زكريا الأنصاري.
- حمد عيسى الرجيب.
- أحمد مشاري العدواني.
- يوسف محمد الشايجي.
- حمد عيسى اليوسف.
- جاسم مشاري الحسن.
- إبراهيم محمد الشطي.
وأنا شديد الأسف حين لا أذكر غير هؤلاء، فما زلت أظنُّ أن من صرت على صلة به من كتاب مجلة البعثة الأوائل أكثر مما أوردته هنا.
هذا، وسوف يقول بعضكم من أين لك أن تجد أعداد هذه المجلة لكي تطَّلعَ عليها كلما أردت ذلك؟ والإجابة عن ذلك سهلة للغاية، فقد قام مركز البحوث والدراسات الكويتية مشكوراً بإعادة طبعها كاملة منذ العدد الأول إلى آخر ما صدر منها.
وجاء الطبع في ثمانية مجلدات أُلحق بها مجلد ضم فهارس مفيدة ومفصلة تبين كل ما ورد فيها من عناوين المقالات، والأسماء، والأماكن، وكل ما يحتاج إليه القارئ.
وقد بدأ هذا المجلد بمقدمة كتبها أخي د.عبدالله يوسف الغنيم رئيس المركز نَوَّه فيها بمكانة هذه المجلة، وبين كيف تم القيام بطبعها مرة أخرى.
ثم أعقبت هذه المقدمة كلمة كتبها الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري وهو رئيس تحرير البعثة الثاني، وفيها تفصيلات كثيرة عن العمل المبذول في إصدار المجلة، وذكر بعض الأمور المتصلة بكبار قرائها، وقد أسهب الأستاذ الأنصاري في ذلك وأفاد.
ولم يكتف المركز النَّشط بذلك، فقام بإصدار طبعات أخرى لمجلات كويتية متوقفة منذ أمد بعيد منها مجلة الرائد، ومجلة كاظمة، ومجلة الإيمان، ومجلة الموظف، وغير ذلك فحفظ بها تراث الكويت الصحافي، وحفظت هذه المطبوعات تلك المعلومات المهمة التي اشتملت عليها هذه المجموعة من مجلات الكويت التي كانت تُعَدَّ الأولى بالنسبة لمجلاتنا في هذه الأيام.
***
والآن وقد انتهت تلك المقدمات، فإن من المهم أَنْ نُطِلَّ إطلالةً سريعة على بعض ما يتيحه لنا موقعنا هذا لعرض بعض محتويات البعثة.
1- في ص 14 من العدد الأول وصف جيد لقصر بيان الذي كان الشيخ أحمد الجابر الصباح (1920م - 1950) يجلس فيه بعض الأحيان، وكان يَعُدُّهُ منتزهاً له، وهو بالفعل كذلك؛ لأنه كان في مكان مرتفع قليلا يشرف على قرية حولي التي كان الناس يقصدونها أيام الربيع لطيب جوِّها؛ ولأنها تكون عند حلول فصل الربيع في أزهى حلة من الزهور والأعشاب البرية.
وقد هُدِمَ هذا القصر لكي يحل محله: مستشفى مبارك الكبير، ويصير دليلا على ذلك القصر الذي أخذت المنطقة المحيطة به اسمه بعد أن تم تنظيم القطع السكنية.
لقد كانت لقصر بيان مكانة في نفس الشيخ، وكان له ذكر طيب بين الأهالي الذين كانوا يقضون الربيع في قرية حولي المجاورة له، فيسعدهم أن يروا أميرهم وهو يشاركهم ربيعهم، ويقضون أياماً جميلة إلى جواره.
كتب أحد أبناء الكويت الدارسين في القاهرة وكان ذلك في سنة 1946م هو المرحوم يعقوب الحمد الذي صار له عمل كبير الشأن في مجال الاقتصاد الكويتي والتطوير منذ تخرج في جامعة القاهرة، وعاد إلى الوطن. وقد كتب عن قصر بيان ما يلي:
(هيا بنا هيا بنا ننتهز هذه الفرصة السانحة لزيارة أميرنا المحبوب الشيخ أحمد الجابر الصباح في قصره الريفي في قرية حولي، ذلك المربع الكويتي الجميل، فقد جرت عادة الكويتيين أن يقضوا أيام الربيع خارج المدينة في بيوتهم الريفية المنتشرة في القرى الواقعة على البحر أو البعيدة قليلا عنه، فللربيع طراوة وجمال يمتاز به عن الفصول الأخرى و خاصة لبلد مثل الكويت.
إن بيان وهو قصر الأمير مكون من كثير من الأجنحة لا تجد للزخرفة أثراً كبيراً فيه، ولكنه جميل في بساطته ممتاز بموقعه المشرف على القرية ومنظر البحر الذي يمتد أمامه بعد مسافة من خضرة الربيع الزاهية.
لقد كان الوقت بعد صلاة العشاء في إحدى ليالي شهر فبراير وكان سمو الأمير متصدراً القاعة المعدة للاستقبال والمفروشة بقطع السجاد الفارسي الجميل وقد جلس يحيط به بعض أبنائه الأمراء وبعض الخاصة والأصدقاء.
إن سمو الأمير يستوي قائماً عند ما دخلت فيصافحني ويجلسني بجنبه ويبتدرني بالأسئلة المختلفة. وبعد هنيهة أمر كعادته بالقهوة العربية فردد نداءه من كان واقفاً من الخدم بصوت يخيف من لم يتعود عليه. (قهوة... قهوة... قهوة...) و بعد برهة قصيرة دخل الساقي يحمل بيده إناء القهوة العربية المسمى بالدلة، وبيده اليمين الفناجين.
إن الذي لم ير الأمير من قبل تكفيه ساعة واحدة لكى يدرك مدى دماثة أخلاقه وحبه للعلم والبحث وسعة اطلاعه على الأخبار السياسية الخارجية، وأما عن شؤون إمارته فلا تخفى عليه شاردة ولا واردة، وليست مدة الجلوس بين يدي سمو الأمير معينة فأنت تجلس إلى أي وقت تشاء و تقوم متى أردت.
إن مجالس أميرنا المحبوب لا تملُّ. فلنستأذن الآن لكي نعود مرة أخرى إن شاء الله).
ويعقوب يوسف الحمد من مواليد سنة 1924م، وقد تخرج في جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا) في سنة 1950م. وتخصص في التجارة.
كان عضواً في عدد من المجالس ورئيساً للبنك الوطني منذ سنة 1965م حتى سنة 1979م. وله من المؤلفات كتاب «ماذا نريد من حكومة الكويت؟» وقد صدر في سنة 1952م.
إنه شخصية اقتصادية بارزة، صاحب رأي سديد، وعمل دائب.
2- وفي ص 242 من العدد الأول (المجلد الأول) مقال مترجم عن كتاب «أبناء السندباد» للبحار المشهور عندنا الآن وهو ألن فاليارس، وهو جزء من حديث له عن الكويت وعن نظام الحياة فيها حينما جاءها بصحبة النوخذة علي النجدي.
وهذه الفقرة مما لابد من عرضه هنا لما فيها من بيان للأجواء الكويتية في مجال العمل البحري آنذاك ووصف لأعمال النواخذة والبحارة الذين شهد فاليارس أعمالهم.
يقول في كتابه كما نشرت مجلة البعثة في سنة 1947م:
«لقد مكثت في هذه المدينة اللطيفة (الكويت) أربعة أشهر؛ ذهبت في أثنائها إلى مغاصات اللؤلؤ، وتجولت على ساحل الأحساء، وزرت العراق وجزر الخليج، وكان كل يوم يمر يعلمني شيئاً جديداً. وحينما غادرت الكويت كان لايزال أمامي الشيء الكثير لأتعلمه.
قضيت فترة من هذه المدة عند أصدقائي آل الحمد في بيتهم الريفي بقرية الدمنة خارج مدينة الكويت على ساحل الخليج الرملي.
وقد كنا نستحم في البحر صباحا ومساء وننام في الظهيرة عندما يشتد الحر ونضطجع على الرمال في المساء نتحدث، ثم ننام على نغمات الأمواج وهي تداعب الساحل، وقد التحفنا بنجوم السماء وتوسدنا الرمال، وكان الجو في الدمنة أحسن منه في المدينة نفسها حيث يُلَطِّفُ هواء البحر الجو ولا تصل سموم الصحراء إلى هناك، وننزل المدينة كل يوم حيث نقضي الصباح نزور ونُزار ونشرب القهوة ونتجاذب أطراف الأحاديث ونمر على هذا التاجر وذاك، ونحيي الشيوخ والأعيان ونقضي فترات جالسين على السجاجيد المفروشة داخل الدكاكين أو خارجها ننظر إلى الحياة التي تزدحم حوالينا.
وعند الظهر نعود إلى الدمنة لنتغدى، ثم ننام ونستيقظ لشرب الشاي والاستحمام في البحر. ثم نعود مرة أخرى إلى سوق الكويت في جو العصر الرطب لكي نعيد كرة الصباح.
وعلى هذه الصورة يقضي معظم التجار وقتهم بينما تسير أعمالهم من نجاح إلى نجاح.. وترى الربابنة وقد سمنت أجسامهم من الراحة وحسن الغذاء.
«إننا نصلي ونأكل ونملأ نفوسنا سروراً، هذا كل ما نفعله حينما نكون في أرض الوطن». هذا ما قاله لي أحد الربابنة، ثم أضاف إلى ذلك قوله: «إن هذا شيء جميل، لكن الرجوع إلى البحر جميل أيضاً..».
(الدمنة والراس كانتا قريتين متجاورتين ضمتا إلى بعضهما وَسُمِّيَتَا: السالمية).
ومن الجدير بالذكر، أن وزارة الإعلام قد التفتت إلى هذا الكتاب في سنة 1981م فنشرته مترجماً.
ومن ثم قام مركز البحوث والدارسات الكويتية بمراجعة تلك الترجمة وإعادة طبع الكتاب بصورة لائقة، وأصدر معها مجلداً ضم الصور التي التقطها هذا البحّار الذي شارك أبناء الكويت في رحلة السفر الطويلة وفي رحلة الغوص وكتب عن هاتين الرحلتين.
كانت السفن الشراعية هي أهم وسائل أهل الكويت للأسفار، فبواسطتها استطاعوا الوصول إلى أماكن بعيدة، وزاولوا مهنتي التجارة والنقل، واشتهروا بذلك حتى صارت بلادنا مركزاً مالياً وتجاريا مرموقاً في المنطقة كلها.
ولقد أصبح الشراع الكويتي الأبيض الذي يرتفع على السفينة الكويتية شعاراً يعتز به جميع الكويتيين، ومن أجله كتب الأستاذ محمد الفوزان مقالاً لطيفاً وعاطفياً في العدد الصادر في أول شهر أبريل لسنة 1947م جاء فيه:
«هذا الشراع الأبيض الخافق خفوق أجنحة الحمائم البيض تزدان به صواري السفن الذاهبة الآيبة في هذا الخليج العربي.. هذا الشراع هو رمز الماضي الحافل بالخير والمستقبل الباسم بالأماني العذاب... هذا الشراعُ الأبيضُ الناصعُ يتفتح للشمس المشرقة لتذيب على صدره الرَّحْبِ النَّقِي أشعة ذهبية وهاجة تُسَرُّ لمرآها العيون وتبتهج لها القلوب، هذا هو شراعنا الذي يجوب البحار إلى سواحل اليمن والهند وأفريقية يربط الكويت وباقي بلاد الخليج العربي ببلاد العالم الأخرى، يقوده فتيان أحبوّا البحار كحبهم لوطنهم (الكويت) فوجهوا الشراع الخفاق لخدمة أمتهم وبلادهم.. يفتح الفتى منهم عينيه ليرى العالم الزاخر من سطح سفينته وفي ظل شراعه، ويكتسب فن قيادة السفن بالمران والخبرة عمن سبقه، وهذا هو (النوخذة) يُلقي تعليمات السير في البحر على رجاله البواسل (ارفع الشراع) فيتسابقون إلى شراعهم المحبوب يفردونه فيرتفع عاليا وترتفع معه دعواتهم الخالصة إلى الله العلى العظيم أن يدفع عنهم مر أنواء البحر ومعاكسات الرياح. واسمعهم ينشدون (مولاي سهل علينا) ثم يتغير النغم إلى (صلينا على النبي الهادي).. ويرفعون المرساة استعدادا للسفر البعيد....».
ويستمر الأستاذ الكاتب في الحديث عن البوم ذي الشراع الأبيض إلى أن يذكر وصول السفينة إلى أحد المواني، وإلى آمال من على متنها في نجاح رحلتهم، وإلى أشواقهم إلى الوطن الحبيب.
كما يتحدث عن حالة البحر عند هيجانه إثر هبوب رياح عنيفة، وحال البحارة، وكيف يقابلون هذا الهيجان بما أوتوا من قوة وخبرة في مواجهة المشكلات الناجمة عن تقلب الطقس.
ثم يصف نجاة السفينة من ذلك المأزق، وعودتها، واستقبال الأهالي لها بفرح غامر، وشكر لله على نجاة من كان على متنها.
***
ولابد أن تَرِدَ في المجلة طرائف يرويها أبناء الكويت الذين يتلقون علومهم هناك. ولقد وجدت في ص 35 من المجلد الأول طرفة ممتعة كتبها الشيخ جابر العبدالله الجابر الصباح، وكان وقتذاك طالبا في القاهرة، فأمتع قراء البعثة بما يلي: «دخلت أحد المطاعم يوما فلمحت في إحدى زواياه رجلا فرنسياً قد تجاوز السبعين وقد أطلق شعر رأسه ولحيته، ووضع أمامه أدوات الرسم وفي يده لوحات يرسم عليها.. فجلست قريبا منه لأرى.
أو كما يقول المثل الكويتي (لأبلغ شفى) وإذا به ينظر إلى من طرف عينيه.. فظننت أنه لا يريد أن أنظر في صوره وصرفت بصري إلى الشارع أتأمل الغادين والرائحين وبعد نصف ساعة تقريبا أحسست بمن يلمس كتفي والتفت وإذا بالرسام قد وضع اللوحة أمامي وقال لي: ما رأيك فيها؟ فقلت وقد خرجت مني هذه الكلمة سهواً (زينة).
فرفع الرجل إلى رأسه وهو يقول: أتسمح بإعادة ما قلت؟ فقلت له: متأسف إني أقصد أن أقول (كويسة).. فسحب أحد الكراسي وجلس بجانبي وأخذ يسألني عن موطني، فلما قلت له إنني كويتي.. ذكر لي أنه يعرف الكويت.
وقد زارها سنة 38 قبيل نشوب الحرب.. وذكر لي بعض أسماء التجار وأنه قابل سمو الأمير.. كما ذكر لي أنه يحب الرسم كهواية فقط. وقد سُرَّ كثيراً لَمَّا علم أنني لا أفضل على الرسم هواية أخرى...).
وما دمنا قد ذكرنا هذا الرجل الفاضل فلابد من الحديث عنه: فهو كما يعلم الجميع أحد أنجال الشيخ عبدالله الجابر الصباح رئيس مجلس المعارف ودائرة معارف الكويت، ودائرة المحاكم وعدد آخر من الدوائر الحكومية.
وقد كان الشيخ جابر عونا لوالده في الكثير من أعماله. ثم صار محافظا لمحافظة الأحمدي، وأمضى فيها وقتا كان من أزْهى أوقاتها. وهو رجل محبوب من الجميع، ويذكر بكل خير في كل مجلس. ندعو الله له بالصحة والعافية.
وهذه النادرة التي أتحفنا بها الشيخ جابر العبدالله الجابر الصباح تستدعي غيرها من النوادر، ذلك أن من طلاب البعثة الكويتية في القاهرة الشاعر أحمد العدواني وصديقه الأستاذ حمد الرجيب، وكانا ممن يحرص على الكتابة في مجلة البعثة بحيث لم يخل عدد من أعدادها مِنْ مقال أو قصيدة لواحد منهما.
وقد بلغ من حبهما هذه المجلة أنهما عندما عادا من دراستهما إلى الوطن أصدرا مجلة اختارا لها اسما يقرب من اسم مجلة البعثة، فسمياها: البعث، وقد صدرت منها أَعداد قليلة ثم توقفت.
وقد لاحظنا أن هذين (الطالبين) كانا يتعاونان في بعض الأحيان على كتابة شيء من الشعر الذي فيه تقليد لبعض منظومات معروفة، ولكنهما كانا يميلان فيما يكتبان إلى ما يجلب الضحك، وهما يوقعان هذا النوع من الشعر باسم جامع بين اسميهما وهو: العدرجيبي.
ومثالا لذلك فإنهما اطلعا على قصيدة أحمد شوقي التي مطلعها:
ألا حبذا صحبة المكتب
وأحبب بأيَّامِهِ أَحْبِبِ
فحولها العدرجيبي إلى:
ألا حبذا منظر المنچب
وأحب بأيامه أَحْبِبِ
ألا حبذا سمك ينقلي
على طابيٍ واسعٍ ارحبي
يكاد شذاهُ يشُقّ الأنو
ف، ومنظره يا صلاة النبي
بنفسي الزبيدي فوق الصَّحو
ن، فداء البشوت وأهل العِبي
وسال اللعاب يبلَّ الثيا
ب، فبوبزت في هيئة المحتبي
وشَمَّرت عن ساعدي وانطويـ
ـت، على الأكل في شَرَهٍ أشعبي
ويا حبذا قول أمي: انچبي
ويا حبذا قول صحبي: تبي
ألا إنني سيد الأكليـ
ـن إذا الأكل صار على مطلبي
وإن المحمر من لذَّتي وإن المطَبَّق من مذهبي
وماهو أكلُ ولكنَّهٌ وريد الحياة مدى الأحقب
(إنْچبْ: انقل الأرز بعد استوائه إلى الصحن استعداداً للأكل، الطاَبْي: الإناء الذي يُقلى فيه ما يراد أن يقلى من الأطعمة، ويطلق عليه اليوم اسم: مُقْلَى، بوبزت: جلسة القرفصاء، وذلك بوضع باطن القدمين على الأرض، مع ثني الساقين إلى الفخذين، والجلوس هكذا، وهو في الفصحى يسمَّى - أيضاً الاحتباء، ولذا قال الشاعر هنا: هيئة المحتبي).
وأحتج أحد قراء (البعثة) على هذه الأبيات فكتب قائلاً:
«لقد فات شاعركم المبدع أن يذكر من أصناف الطعام: المربيَنَ والممَّوش في قصيدته أو معلقته، لذا فَإنِّي أُتِمُّ هذا النقص فأقول:
فإن المربين قرم الطعا
م، فرشْ لِيَ دقوسَهُ واسْكٌبِ
ولا تنس أَكْلاً إذا البرد أر
عَدَ، شاب الرجال مع الأشيبِ
يُسَمَّى المموش في قومنا
وادعوُه بالمدفئ الملهبِ> > >
هذا بعض ما جاءت به مجلة البعثة في أعدادها الأولى، ولا شك في أننا سوف نحتاج إلى فصل آخر من المسامرات نكمل فيه اختياراتنا. فإلى اللقاء.