في مبادرة تكريمية متميزة أصدرت مؤسسة الفكر العربي كتاب «وطن اسمه فيروز» بمناسبة عيد ميلادها الثامن والثمانين، احتفاء بصوتها الآسر وأدائها المتميز، وعربون شكر على أغانيها التي غمرت الآلاف منا بفيض خلاب ومفجر لعمق المشاعر والذكريات والأحلام. ويوجه الكتاب تحية تقدير إلى جميع الذين أسهموا في اكتشاف موهبتها الفريدة ورعايتها وصقلها، وفي إطلاق مسيرتها الفنية الاستثنائية وتوفير دواعي تألقها، من واضعي نصوص أغانيها ومؤلفي موسيقاها وألحانها، وفي طليعتهم ثلاثي الرحابنة الفذّ: منصور وعاصي وزياد. وأتى الإصدار الفخم والأنيق لسبر أغوار ظاهرة فيروز والرحابنة، تلك الظاهرة التي حملت من الرقي والإبداع والأصالة والتجديد الكثير.
كثيرة هي الكتب التي تناولت عالم فيروز والرحابنة ولكن ما يميز هذا الإصدار أنه لا ينسب إلى مؤلف واحد، ولا ينحصر في بلد عربي بعينه، ولا يقتصر على نوع كتابي معين، فهو عمل جماعي، ينتمي المشاركون في تأليفه الى مختلف الدول العربية، ويضم بين دفتيه في سياقات مؤتلفة ومتكاملة، دراسات ومقالات تتسم بطابعها البحثي ومنحاها الأكاديمي ومضامينها الفكرية، وشهادات يغلب عليها الطابع الذاتي والخواطر التأملية وتتجاور على امتداد صفحاته مناهج التوثيق والتحليل والتقييم.
وعلى تعدد مؤلفيه، وتنوع بلدانهم واختصاصاتهم وموضوعات مقالاتهم وأنماط مقارباتهم، يبرز في هذا الإصدار إجماعهم على الاعتراف بعبقرية الرحابنة، نصوصا وألحانا وموسيقا، وبفرادة فيروز، صوتا وأداء، كما يبرز فيه إجماعهم على اعتبارها، وفق أدق المعايير، «رمزا» لبنانيا، و«أيقونة» عربية، و«نجمة» عالمية.
وأما عنوان هذه المجموعة من المقالات الذي يقيم معادلة بين الوطن وفيروز، فقد تم اختياره من وحي هذه الرؤى، والوطن المقصود هنا لبنان، الأرض التي أنبتت واحتضنت فيروز والرحابنة، هذه الظاهرة التي قلما يجود الزمان بمثلها، وهو البلد الذي غنوه وأغنوه بإبداعاتهم الثرية.
وهو الوطن البديل، العالم المثالي المتخيل الذي رسمه الرحابنة، رفضا لبؤس الواقع وترديه، وبهدف تغييره إلى الأجمل. وهو الوطن الذي تولت فيروز، ومازالت تتولى كل يوم، نقلنا إلى ساحاته وفضاءاته...
كما تضمن الإصدار رزنامة زينت برسومات أضاءت على عدد من محطات مسيرتها الحافلة بالإبداع، وذلك برسومات من إعداد سامية الحمصي داغر، وهي مستوحاة من صور منشورة على عدة منصات إلكترونية.
يحفل الكتاب بشهادات متنوعة ومختلفة من أبرز الباحثين الموسيقيين في العالم والوطن العربي، ومن ضمن المقالات التي ازدان بها الكتاب مقال: «فيروز في الخليج العربي» للكاتب والإعلامي البحريني د.حسن مدن، مما جاء فيه:
ولما كان لبنان وجهة سياحية محببة للشرائح المقتدرة من مواطني الخليج، يوم كان لبنان في عافيته، بخاصة في فصل الصيف، الذي كثيرا ما تقام فيه حفلات ومهرجانات كانت فيروز تشارك فيها، فإن هذا الأمر فتح، هو الآخر، نافذة أخرى لأولئك السواح على وجه لبنان الثقافي والفني الذي كانت فيروز والرحابنة من ابرز عناوينه.
كانت دولة الكويت سباقة في افتتاح محطة تلفزيونية في بلدان المنطقة، التي بالإضافة الى ما باتت تقدمه من أخبار وبرامج منوعة، اهتمت ببث الأغاني المختلفة، وكانت لأغاني فيروز حصة من هذا البث، فلم يعد المشاهدون يستمعون الى صوت فيروز عبر الإذاعة فقط، وإنما صاروا يشاهدونها عبر الشاشة وهي تغني، ما أسهم بالتأكيد في تقريبها اكثر فأكثر من المتلقين، وفي الفترة عينها كان يتم تداول أغنيات فيروز، وحتى مسرحياتها، خصوصا بين المأخوذين بفنها، عبر الاسطوانات أولا، ثم عبر أشرطة الكاسيت، قبل ان نلج زمن الأقراص المدمجة.
لم يمض وقت طويل حتى زارت فيروز بعض دول الخليج لإحياء حفلات غنائية فيها، وكانت البداية من الكويت أيضا في ستينيات العقد الماضي، وكانت هذه الزيارة حدثا فنيا كبيرا، وكما هي عادة الرحابنة في الحفلات التي تقدمها فيروز في البلدان العربية، فإنهما كتبا كلمات اغنية تحية للكويت غنتها فيروز في حفلتها هناك، ومن بين كلمات الأغنية: «العيد يروي ويروي سناها يلثم منها المحيا
غني الكويت وغني علاها ويومها الوطنيا
مد شراع وشط يموج عليه تبنى البروج
يا وردة طاب منها الاريج يا عطرها العربيا
بين الكويت وأرض بلادي يا طيبه من وداد
نحن وإياكم في الجهاد نبني المصير الأبيا
وفي ربى الجهراء لو تنطق الأشياء
لأنشـــدت قـصـيـــدة طـويـلـــــة
عن الدماء تهدى الى تراب يفـــدى
عـــن انتشـــاق المجـــد والرجولــــة».لم تكن تلك زيارة فيروز الوحيدة للكويت، ففي مطالع الثمانينيات من القرن الماضي زارتها مرة اخرى، حيث كانت الحرب الأهلية في لبنان بين عامي 1975 و1976، قد هدأت بعض الشيء، وعلى الرغم مما عرف عن فيروز من عدم ميلها للتصريحات الإعلامية، لكنها عبرت يومها في حديث لها مع التلفزيون الكويتي عن شكرها للكويت لوقوفها مع لبنان وشعبه في محنته، ودعمها له، آملة في ان يعود لبنان للاستقرار والأمن، ليستعيد مكانته كوجهة محببة للأشقاء العرب.
في الثمانينيات من القرن الماضي ايضا، وبالتحديد في العام 1984، غنت فيروز، في زيارة لها لدولة الامارات العربية المتحدة كلمات قصيدة، نقتطف منها الأبيات التالية:
عادت الرايات تجتاح المدى
وجعلنا موعد المجد غدا
يا إمارات على أبوابها يصرخ
البحــر وينهـــد الصـــدى
يتلقاني خليج رمله زمن
الصيـــد وأيـــام الحـــدا
وشراع ساهم مدت له
غربة الإبحار في الليل يدا
ولآلــي.. واعـــدت حباتها
كل حسنـاء بأرض موعـدا
يا إمـارات فتيـات علـى
مطلـع الشمس كعقـد نضدا
وتتالت حفلات فيروز في الإمارات والبحرين في السنوات التالية، وكما في كل البلدان العربية التي غنت فيها فيروز تكتظ القاعات ومدرجات المسارح التي تغني عليها بالحضور المتنوع، سواء من مواطني بلدان المنطقة او من الجاليات العربية المقيمة فيها، ما يظهر ان تأثير فيروز وحضورها الفني في بلدان الخليج العربي لا يقلان عما هما عليه في بقية البلدان العربية. والملاحظ ان الجمهور المهتم بفن فيروز يتذوق اغاني المراحل المختلفة لغنائها، وربما تلقى أغانيها من ألحان ابنها زياد صدى أوسع لدى الأجيال الجديدة، لكن تبقى كبيرة في القلوب مكانة فيروز كقامة فنية وكرمز وطني من رموز لبنان، على الرغم مما هو عليه من صعوبات ومحن اليوم، ويبقى فنها فصلا مضيئا في التراث الغنائي والموسيقي العربي عابرا للزمن، تتوارثه الذاكرة الفنية والثقافية العربية.