السعادة والطمأنينة غاية كل إنسان في هذه الحياة، يظل في رحلة بحث عنها حتى الممات، يتلمس اسبابها، ويسعى نحوها، ويسلك كل مسلك يجنبه المعاناة والالم ويمنحه قدرا ولو يسيرا من الهناء وانشراح الصدر، والله جل وعلا حينما انزل دينه الى خلقه فإنه سبحانه انزله لغاية سامية، ألا وهي ان يزكيهم ويطهرهم ويخرجهم من الظلمات الى النور، ومن الشقاء الى السعادة، ومن الخوف والهم إلى الامان والطمأنينة، فلم ينقذ البشرية من كل سوء وشقاء إلا دينه عز وجل، فالله جل شأنه قد وعد كل من آمن به وامتثل الى اوامره ان يسعده ويرزقه حياة طيبة في الدنيا قبل الآخرة (ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ـ النحل: 97)، والعكس صحيح، فقد توعد من يكفر به ويعرض عن دينه بأنه سيعيش في هذه الحياة الدنيا في ضنك، وقلق واضطراب (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ـ طه: 124).
من أجل هذا، نجد ان اهل الجنة يفرحون بما آتاهم الله ويحمدون ربهم تبارك وتعالى أن أورثهم الجنة ليس فيها هم ولا حزن (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ـ فاطر: 34)، فهذا من افضل النعيم، بعد رؤية الله تبارك وتعالى، ان تعيش الى الأبد بلا هم ولا غم في سعادة حقيقية وفي طمأنينة ورضا، الا انه برغم ذلك فإن راحة البال نسبية، والسعادة غير دائمة، لابد من بعض المنغصات والمنقصات، فالله تبارك وتعالى قد جعل هذه الدنيا دار ابتلاء واختبار للعباد، لا دار نعيم، فالنعيم الحقيقي هو النعيم الأخروي، حين يكلل مسعى المؤمن وكده في حياته الدنيا بالفوز بالجنة والنجاة من سوء العاقبة، حتى ان الرسل وهم بشر يصيبهم ما يصيبنا، فكثير ما أصابتهم في دعوتهم آلام ومنغصات، وعنت وإيذاء وتكذيب، ومشاق كانت اضعاف ما يصيب غيرهم من عوام الناس، إلا ان ربنا كان دوما اعلم بهم وارحم، يقول عز من قائل (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ـ الحجر: 97).
إذن، كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج همومه؟ وكيف كان يطردها من قلبه؟ فقد أمرنا المولى جل وعلا ان نتأسى بنبينا في كل افعاله ليس فقط في عبادته وصلاته، ولكن في معاملاته وحياته كلها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش يومه ويستغل كل لحظة فيه في سبيل نشر دعوته وأداء رسالته على النحو الاكمل، لا يلتفت الى ماض ولا يؤرقه مستقبل، لأن ذلك الماضي امره انتهى، جميله وقبيحه، فلا جدوى من التفكير فيه، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم صحابته ويربيهم على المبدأ ذاته، انك انت ابن يومك، فليس من حسن اسلام المرء ان يضيع حاضره في حزن على ماضٍ، وحمل هموم لمستقبل لم يأت بعد، روي عن عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما، انه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب، او عابر سبيل، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح واذا اصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك (رواه البخاري).
ولهذا، قال بعض السلف: الدنيا ثلاثة أيام: أمس فقد ذهب بما فيه، وغد فلعلك لا تدركه، ويوم لك فاعمل فيه. وقيل ايضا: لا تحمل هم الدنيا فإنها لله، ولا تحمل هم الرزق فإنه من الله، ولا تحمل هم المستقبل فإنه بيد الله، فقط احمل هما واحدا ان تنال رضا الله تعالى، فكل منا ابن يومه لا غده «انت ولد يومك»، ابدأ من الآن ولا تنتظر اذا كانت بينك وبين احدهم شحناء، فاذهب له اليوم واعف عنه وابدأ صفحة جديدة، لا تظل تتحسر على ماضٍ كان الناس فيه يصلون ودا ويبرون ارحاما، قم الآن وزر اهلك وصل ما انقطع، واذا كنت تنظر لفلان انه رجل خير وصدقة فلا تكتفِ بالتمني، أنفق بدءا من هذه الساعة وزد من صدقتك، ضع نواياك في موضع التنفيذ، استثمر يومك الآن ولا تنتظر، بادر ولا تلتفت لما كان في الماضي، استغل كل لحظة في عمرك وحاضرك في طاعة الله عز وجل، هكذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم وعلينا الاقتداء به حتى تشفى قلوبنا وارواحنا من منغصات العيش وامراض العصر، قال الله تعالى (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، وقال ابن القيم، رحمه الله، «إن في القلب لشعثا لا يلمه الا الاقبال على الله، وان فيه وحشة لا يزيلها الا الانس بالله، وان فيه حزنا لا يذهبه الا السرور بمعرفة الله وصدق معاملته، وان منه قلقا لا يسكنه الا الفرار اليه، وفيه فاقة لا يسدها الا محبته والانابة اليه ودوام ذكره وصدق الاخلاص له، وفيه حسرات لا يطفئها الا الرضا بأمره ونهيه والصبر على قضائه الى يوم لقائه».