بقلم: نايف شرار
[email protected]
من جديد، وكما جرت العادة في الشدائد والأزمات أظهر المغرب مرة أخرى صموده في الأوقات الصعبة، فبعد أزمة الطفل الشهيد «ريان» الذي شد أنظار العالم وحبس أنفاس البشرية في كل بقاع المعمورة، ها هو المغرب العتيد تحت امتحان القضاء والقدر، يختبر صبره وتحمله، ويقيس درجة الإنسانية والعزيمة والوطنية لدى ساكنيه، حين زلزل الله أرض الحوز زلزالها، وأخرج منها أثقالها، فهلك من هلك من شهدائه راضيا مرضيا، وأصيب من أصيب ممن كتب له من عمره بقية، ونفسه تنزف من أثر فقد أحبته أو ضياع مصدر رزقه أو هما معا في الغالب.
لكن بلدا يقوده ملك متبصر حكيم، قادر على أن يعطينا درسا آخر في تجاوز المحن والأزمات، والخروج من الشدائد والآفات، نحو ما صنعه من معجزات لما انهارت أنظمة عتيدة أمام اجتياح جائحة كورونا (كوفيد-19)، فكان مثالا يحتذى في سياسته الوقائية أولا، ثم العلاجية ثانيا، ثم ادارة المؤسسات في ظل حجر صحي صارم وقف فيه الشعب المغربي وقفة الصمود والثبات خلف عاهله الهمام.
وبالعودة إلى مجريات زلزال الحوز العنيف، فقد أذهلت العالم أجمع قدرة المغرب الفريدة على الاستجابة بسرعة وفعالية لمواجهة التداعيات والتحديات الكبرى التي خلفها الزلزال، وذلك من خلال التدابير الاستعجالية التي اتخذت منذ اللحظات الأولى، فشملت تدخل القوات المسلحة الملكية والوقاية المدنية والسلطات المحلية، إلى جانب القطاعات الوزارية المعنية.
ففي غضون 48 ساعة، تمكنت الجهود الرسمية والشعبية من إعادة الفتح الجزئي لطريق حيوي يؤدي إلى المنطقة المتضررة، وهو ما مكن من شق شريان للحياة من أجل إيصال المساعدات إلى المناطق الأكثر تضررا، كما تمت الاستعانة بخدمات المروحيات التي لم تتوقف عن التحليق والإسهام في عمليات الإنقاذ والإغاثة.
وموازاة مع ذلك «تعبأ» المغاربة - من طنجة الى لكويرة ومن وجده الى الصويرة - فيما يشكل حالة من التراص والزخم التضامني الشعبي شديد الإبهار، لتقديم المساعدة للأشخاص المحتاجين بالرغم من ضعف الأوضاع الاقتصادية بشكل عام. فرأى العالم بأم أعينه طوابير المتبرعين في عمليات التبرع بالدم، متأسين في ذلك بملكهم الذي قدم دماءه الزكية تضامنا مع المصابين، ناهيك عن مئات الشاحنات الملأى بجميع أنواع المساعدات الغذائية والدوائية والإيوائية التي نزحت في «مسيرة تضامنية خضراء مظفرة» أخرى، وصلت الرحم بين أفراد المجتمع المغربي، وعبرت عن التلاحم والتماسك الذي يجمع المغاربة في اللين والشدة.
وقد وصلت الحملة التضامنية ذروتها حينما هب ملك المغرب محمد السادس بزيارة المناطق المنكوبة ميدانيا، فعاد الجرحى في المستشفيات، واطلع بشكل مباشر على العلاج المقدم ووتيرة الاستشفاء.
إن المتابع للتدابير المتخذة لاجتياز محنة زلزال الحوز وأقاليم الجوار في المملكة المغربية، يدرك درجة التأهب المغربي للأزمات، ومدى نجاعة سياسته في التعاطي مع المحن والآفات، وهو ما يرسخ بثبات الآفاق الرحبة والمتبصرة للسياسة الملكية الحكيمة، والالتفاف الشعبي المتماسك بين العرش والشعب المغربي الأبي.
وبتعليمات ملكية رشيدة، أحدثت الحكومة المغربية صندوقا وطنيا للتضامن، وبادر المغاربة المقيمون ومغاربة العالم والمؤسسات والشركات إلى التبرع المادي بكرم حاتمي، وشملت إجراءات إحداثه إعادة الإعمار مع الحفاظ على الثقافة والموروث المحليين دونما مساس بهما.
أما المتتبع لتوجيهات العاهل المغربي فيجد انها كانت واضحة تتضمن تعبئة جميع الموارد على نحو فعال حتى لا يظل أحد من دون مأوى، فقد كانت استجابة المغرب وازنة في مختلف المراحل بين تقديم العلاج الفوري وتوفير السكن المؤقت الاستعجالي، وصولا إلى الإطلاق السريع لجهود إعادة الإعمار، وذلك من خلال برنامج يستهدف نحو 50 ألف منزل انهار كليا أو جزئيا في الأقاليم الخمسة المتضررة، مع توفير السكن المؤقت بشكل استعجالي، قادر على تحمل الظروف المناخية الصعبة التي تتميز بها تلك المناطق في قلب جبال الأطلس.
وتعتزم المملكة إنفاق 120 مليار درهم (11.7 مليار دولار) على مدى السنوات الخمس المقبلة في إطار برنامج لإعادة الإعمار عقب الزلزال.
ويستهدف البرنامج 4.2 ملايين شخص في المناطق الست الأكثر تضررا وهي مراكش والحوز وتارودانت وشيشاوة وأزيلال وورزازات.
ويضم البرنامج مشروعات تهدف إلى «إعادة بناء المساكن وتأهيل البنيات التحتية المتضررة، وتعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المناطق المستهدفة»، وكذلك الانفتاح على المناطق المتضررة. ويتضمن البرنامج تشكيلا احتياطيا من المواد الأولية كالخيام والأغطية والأدوية والمواد الغذائية، وذلك للتصدي بشكل فوري للكوارث الطبيعية.
وفي التفاتة إنسانية عميقة الدلالات، تم اتخاذ إجراءات خاصة لصالح الأطفال اليتامى، فأطلق عليهم العاهل المغربي صفة «مكفولي الأمة» وخصهم بمنح مالية ومتابعة خاصة، وأوكل فرقا مؤهلة متخصصة لتأهيل تبنيهم بسرعة وإدماجهم داخل المجتمع المغربي.
وبينما يلتزم المغرب بإعادة البناء عقب الزلزال، ويسعى الى اتخاذ تدابير قوية أخرى ستتجاوز تحويل هذا التحدي إلى فرصة للتقدم وصمود إقليم الحوز والمناطق المجاورة له، واستغلال تلك النقمة لتصبح «نعمة» على مختلف القطاعات.
ويبقى القول إن الصداقة الطويلة والأواصر العميقة التي تجمع المغرب بعديد دول العالم مكنته من تلقي عشرات طلبات تقديم المساعدة والإسهام في الإغاثة العاجلة، إسهاما في بلسمة الجراح وتضميد النزيف، في إطار العلاقات الودية القائمة على الاحترام المتبادل والتعاون المشترك، كما ان التضحيات والأعمال البطولية التي قام بها أبناء المملكة فاقت بالفعل كل التوقعات وأبهرت العالم، فصرنا أمام محنة في طيها منحة، وأمام أقليم وضع العالم بين رعشة الانهيار ودهشة الانبهار.
وليس أدل على مكانة هذا البلد في المنظومة الدولية، وعلى مقدار ما يحظى به من التقدير العالمي والثقة الأممية، من أن يبقي صندوق النقد الدولي على برمجة اجتماعه السنوي بمدينة مراكش منتصف شهر أكتوبر من السنة الجارية، دونما أي تأجيل أو إلغاء، مع ما يحمله هذا القرار من دلالات عميقة على قدرة المملكة المغربية على تجاوز المحن، وعلى الانبعاث من الابتلاءات بكل قوة وثبات وتكاتف والتحام.
فلا غرابة في ذلك إذن ولا عجب، فذلك هو المغرب ملكا وشعبا لمن لا يعرفه، وصدق قول القائل متمثلا قدرة هذا البلد على صناعة المستحيل واختلاق المعجزات: «ما دمت في المغرب فلا تستغرب»!!