ها قد مضى الجزء الأكبر من شهر رمضان، ولم يتبق الا ايام قليلة، بعدها نودع الشهر الفضيل، ولا يدري الإنسان هل يمتد به العمر ليشهد رمضان المقبل أم يحل عليه الأجل فينتقل إلى جوار ربه، ومهما يكن من أمر فإننا ندعو الله تبارك وتعالى في هذه الأيام المباركة التي نعيشها اليوم، وهي العشر الأواخر من رمضان، أن يرحمنا ويقبل توبة التائبين ويكشف الكرب عن المكروبين.. وعن كيفية إحياء العشر الأواخر من رمضان، يقول الشيخ د. فيصل العتيبي موضحا فضلها: من نعمة الله بالعبد ان يبلغه العشر الأواخر من رمضان، فكم هم الذين كانوا يتمنون ان يبلغوا هذه العشر الأخيرة لكن الله قدر عليهم ان يكونوا في عداد الموتى، أما وقد أمد الله في عمرك حتى بلغت هذه العشر المباركات فلتري رب العزة والجلال ما يجب ان يراه منك، فإن من أعظم ما يحث المسلم على حسن استغلال هذه العشر الغاليات ما جاء في فضلها، فقد تكاثرت نصوص الكتاب والسنة في بيان منزلتها ومكانتها عند الله تعالى، ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الاواخر من شهر رمضان ما لا يجتهد في غيرها (مسلم 1175)، وقد جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزره» (البخاري 1920)، وهذا فيه مبالغة في عبادة الله في هذه العشر المباركات.
ومن فضائل هذه العشر أن فيها ليلة القدر، قال الله تعالى: (حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك إنه هو السميع العليم) (الدخان: 1 - 6)، فقد أنزل الله في هذه الليلة كتابه العظيم الذي فيه الهداية والخير.
ومن فضائل هذه العشر ايضا ان فيها ليلة القدر التي من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» (البخاري 1910).
وليلة القدر لعظم شأنها أنزل الله فيها سورة في القرآن وهي قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر)، فالعبادة في هذه الليلة خير من ألف شهر، وهي ساعات معدودة الموفق من وفقه الله لحسن العمل واستثمار كل لحظة وثانية فيها.
ولعظم ليلة القدر في هذه العشر الغالية اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم طلبا لها فقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الاول من رمضان ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية (والقبة: الخيمة وكل بنيان مدور) على سدتها حصير قال فأخذ الحصير بيده في ناحية القبة ثم أطلع رأسه فكلم الناس فدنوا منه فقال إني اعتكف العشر الأول التمس هذه الليلة ثم اعتكفت العشر الاوسط ثم اتيت فقيل لي انها في العشر الأواخر، فمن احب منكم أن يعتكف فليعتكف، فاعتكف الناس معه، قال وإني أريتها ليلة وتر وإني اسجد صبيحتها في طين وماء فأصبح من ليلة إحدى وعشرين، وقد قام الى الصبح فمطرت السماء فوكف المسجد فأبصرت الطين والماء فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثة أنفه فيهما الطين والماء وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر.
(صحيح مسلم 1167)، وفي رواية قال أبو سعيد: «مطرنا ليلة إحدى وعشرين، فوكف المسجد في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت اليه، وقد انصرف من صلاة الصبح، ووجهه مبتل طينا وماء» متفق عليه، وروى مسلم من حديث عبدالله بن انيس رضي الله عنه نحو حديث ابي سعيد لكنه قال: «فمطرنا ليلة ثلاثة وعشرين» وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى» (رواه البخاري 4/260).
الأعمال بخواتيمها
يقول د. خالد الخالدي: كان نبينا صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، وهذا كله دليل على مزيد اجتهاد في العبادة في هذه العشر المباركة.
وسبب ذلك أن فيها ليلة القدر التي وصفها الله بالبركة بقوله: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة)، اي: كثيرة الخير، ومن خيرها ان العبادة فيها تعدل عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وفي ذلك يقول تعالى: (ليلة القدر خير من ألف شهر)، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه»، فضلا عن كون هذه العشر هي ختام الشهر المبارك، والاعمال بخواتيمها.
فالواجب الاجتهاد في دعاء المولى عز وجل بالتوفيق للعمل الصالح في هذه العشر، فلا سبيل للقيام بأي طاعة من الطاعات الا بالاستعانة به تبارك وتعالى، مع الحرص على بذل الاسباب المحققة لذلك، وسؤاله تعالى الثبات وزيادة الخير ومما ينبغي علينا الاقتداء بنبينا صلى الله عليه وسلم في إيقاظه أهله في هذه العشر، وان يحرص كل منا على رعيته في بيته، بتعليمهم وإرشادهم الى ما يصلح دينهم ودنياهم.