بيروت ـ ناصر زيدان
المآدب الرمضانية في لبنان تحولت إلى وسيلة أخرى لتوصيل الرسائل السياسية، تعتمدها أحزاب وقيادات ورجال الدين وجمعيات مهتمة، من خلال تحديد الدعوات وتنويعها، وبواسطة تصنيف مستوى الحاضرين عن طريق حجز أماكن جلوسهم، او عبر منسوب الاهتمام بهم، او بإشارات ترد في الخطابات التي تلقى فيها من قبل أصحاب الدعوة، او من قبل ضيوف على المناسبة.
الإفطارات الجماعية كان اسمها «مآدب الرحمن» وهي انتشرت في الشهر الفضيل، وهدفها إطعام المحتاجين ومساعدة الذين لا يستطيعون تأمين قوتهم المناسب، ولتشجيع فئات أخرى على الالتزام بفريضة الصيام، على اعتبار أن بعضهم ليست له القدرة على تأمين مستلزمات الفريضة من طعام وشراب في الوقت المناسب، وساهم القادرون من أهل الكرم والجود في تكاليف المآدب وتأمين الطعام، انطلاقا من خلفية ايمانهم بواجب التعاضد بين أفراد المجتمع، بحيث يساعد الأغنياء الفقراء.
غالبية حفلات الإفطار او السحور التي تحصل في لبنان، تختلف جذريا عما هو متعارف عليه. وحضور بعضها ومتابعة ما ينشر عن بعضها الآخر في وسائل الاعلام، يؤكد هذا التشخيص، «فالغرضية» تكاد لا تغيب عن معظمها. فمنهم من يهدف من وراء الدعوة لحفل الإفطار إلى جمع مبالغ مالية لتدعيم عمل الجهة التي يمثلها، فيدعوا القادرين ماديا ويكرمهم. ومنهم من يرمي إلى تأكيد حضوره السياسي او الديني، فيولف المناسبة لهذا الغرض، ومنهم من يرغب من وراء تنظيم الإفطار في تنمية وجاهته بين المحيط، والبعض يريد بعث رسائل تؤكد على حرصه على العيش المشترك، وإبعاد تهمة التعصب الطائفي عنه، وعلى الدوام يكون عدد كبير من المدعوين ليسوا من الصائمين.
وقد تحول الشهر الكريم إلى ورشة نشاط سياسي واجتماعي وديني، يحفل بالمناسبات، وبعضها مرهق للداعين وللمدعوين، من حيث أماكن تنظيمها البعيدة والغالية، ومن حيث تكاليف المساهمات المالية فيها. وأصبحت حفلات الإفطار من أبرز وسائل الدعاية، ولا يتوان بعض القائمين فيها عن تحديد الغرضية بطرق حديثة، فيها منافسة شريفة للحصول على أفضل توصيف، او ثناء. وبذلك يكون الشهر الفضيل الذي ولد للسكينة والهدوء والخشوع لرب العالمين، قد تحول إلى مساحة مرهقة، ومحطة مثالية لتنفيذ مشاريع دعائية في مختلف الاتجاهات السياسية والدينية والتجارية وحتى البلدية والاختيارية.
يتحامل بعض الراديكاليين بكلام قاس على حفلات إفطار فيها شراهة بالغة، وتقدم على موائدها أصناف من المأكولات الغالية الثمن، وتتناقل صورها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، بينما شريحة كبيرة جدا من المواطنين غير قادرة على الحصول على الحد الأدنى من الغذاء المناسب بسبب الغلاء، وجراء تدني مداخيلهم، بحيث أصبح ما يقارب 80% من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر، وفق تقارير محلية ودولية محايدة. وبطبيعة الحال، فهؤلاء يتألمون من مشاهد البذخ من أي جهة أتت، ويعتبرون أنفسهم أحق من كبار المسؤولين في الحصول على طعام مناسب افتقدوه منذ فترة طويلة.
اما النشطاء المتابعون لمآسي الشعب الفلسطيني، ولما يجري في الجنوب، فيتحاملون على منسوب الرفاه والترف الذي يحصل في بعض المآدب، ويعتبرون ذلك استهتارا بدماء الشهداء والضحايا.
غالبية الرسائل التي بعثت من خلال حفلات الإفطار الكبيرة، لم تغير من خريطة المشهد السياسي المعقد الذي يعيشه لبنان. فالاصطفافات الحزبية او الطائفية او المحورية ما زالت على حالها، خصوصا اتجاه التعامل مع الاستحقاقات الدستورية المعطلة، وأهمها الإخفاق في انتخاب رئيس للجمهورية. وكان ذلك واضحا من شكل ومضمون حضور مآدب الإفطار ذات الطابع السياسي، سواء من خلال الحضور الشخصي لبعض كبار المسؤولين في مناسبات وعدم حضورهم في مناسبات أخرى، او من خلال مستوى التمثيل للقوى والكتل الأساسية في هذه الحفلات، رغم إبداع اللبنانيين بفن التخفي والمجاملة. وكلها إشارات لها ابعاد استقطابية لن ندخل بتفاصيلها. ولكن يمكن القول: أن أيا من هذه الإفطارات لم يكن وطنيا جامعا، كما في إفطارات قصر بعبدا بصرف النظر عن شخصية الرئيس.