- قصائد شعرية كانت قوة أمل وشعاع نور وسط ما كنا نعانيه في «كورونا»
- القصيدة الأولى جاءت وسط إجراءات مشددة أشبه ما تكون بالأحكام العرفية
- نسج الشاعر قصيدته على منوال معلقة عنترة بن شداد العبسي
- الفنان عبدالحسين عبدالرضا أدخل شخصية عنترة في أوبريت «بساط الفقر»
نعم، إنه قد يبتسم، وقد يكون ذلك في وقت لا مجال فيه للابتسام، ولهذا قال القدماء: «شر البلية ما يُضحك».
مرت بنا - في الكويت - ظروف صعبة للغاية في تلك الأيام التي اجتاحت بلادنا خلالها جائحة «كورونا»، وعشنا معها أياما قاسية، أهونها كان عدم الخروج من المنازل إلا لحاجة قصوى، مع الالتزام بوضع الكمامة على الأنف والفم، والقفازات على الأيدي، وإلى جانب ذلك ما يقتضيه الأمر من تطهير وتعقيم دائمين للأماكن التي تجمع الناس خشية انتقال العدوى إن وجد من بين الحاضرين من يحمل مكروب هذا الوباء. والآن وقد زال عنا ما كنا نخشاه، وعادت الأمور في حياتنا اليومية إلى ما كانت عليه قبل الجائحة، فقد بقيت لنا الذكريات. وهي ذكريات منها ما هو بائس ينبغي أن ينسى، ومنها ما فيه تسلية وهو جدير بأن يذكر، وليس من المستغرب أن يأتي الأمر المسلي في ثنايا الوقت المشحون بالأسى والخوف والاضطراب، فنضحك ضحكا كالبكاء، مثل ما قال المتنبي.
ومن هذا المسلي أن يتسلط شيطان الشعر في ذلك الوقت المعتم، فتظهر قصيدة فتعطينا بصيصا من النور، وشيئا من الأمل، حتى إذا ارتاحت لها النفس، ظهر من الشعر ما يقابلها فكان ذلك مدعاة إلى قوة الأمل، وإلى انتشار شعاع النور، وتهوين ما كنا نعانيه، إلى حين.
هذه هي القصيدة التي جاءت في ذلك الوقت، وقد كتبها شاعر من المملكة العربية السعودية الشقيقة، ثم وصلتني عن طريق الأخ الكريم مساعد أحمد الجراح، فأسعدني وصولها، وبادرت إلى قراءتها سعيدا بما فيها من نغمات تدل على التفاؤل، وتفتح المجال للإشراق المنتظر، فكتبت أخرى على نمطها.
ثم بعد ذلك اطلع الأخ الكريم الدكتور عارف الشيخ من الإمارات العربية المتحدة الشقيقة على القصيدتين، فجادت قريحته بتشطيرهما فزادهما ذلك حسنا.
لقد تبين لنا أنه مع شدة وطأة الوباء، اشتد الحرص على اتخاذ الوقاية منه، وبعد قليل من الزمن تحولت هذه المهمة من عمل شخصي يقوم به الفرد خوفا على نفسه، وإبعادا لها عن الخطر إلى أمر له صفة رسمية اتخذت إجراءاتها الجهات المختصة في الدولة، حتى لقد اقتربت من الحالة التي تجري في كل بلد عند إعلان الأحكام العرفية، مع فارق كبير هو عدم تذمر الأهالي بما فرض عليهم من قيود، بل كانوا أشد حرصا على مراعاة متطلبات الوقاية خوفا من عواقب التساهل تجاه المرض، وهذا لأن الأخبار كانت تتوارد من كل أنحاء العالم فتنذر بأخطار شديدة قادمة، وكان الإعلان اليومي عن المصابين والموتى يزيد الناس رهبة. ومع علم الناس بأنه ليس هناك من لقاح واق من الجائحة، كان الخوف من نتائج الوباء أكبر. ولم تهدأ الأنفس إلا بعد مرور بضعة أشهر حين جاء خبر الكشف عن اللقاح، وزاد الاطمئنان بوصوله إلى الكويت وتعميمه بين المواطنين وغيرهم.
وفي هذا الجو جاءت القصيدة الأولى، وكانت بدايتها كما يلي:
يا دار عبلة بالفناء تكلمي
فاليوم قد منع التجول فاعلمي
إن البقاء في البيت أصبح واجبا
لا تخرجي يا عبلتي كي تسلمي
كوفيد لا يدري بأنك عبلة
وبأن عنتر فارس لم يهزم
قد كنت قبل اليوم أهزم جحفلا
إن قيل عبلة في المخاطر ترتمي
واليوم ها أنا عاكف في غرفتي
وبمفردي مثل البعير الأجذم
أصحو فأطبخ وجبتي متثاقلا
ليس الطبيخ على الفتى بمحرم
ولقد ذكرتك والصحون مليئة
فولا وكأس الشاي يسكب في فمي
ووددت تغسيل الصحون لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
لا تعجبي من حالتي ولتسألي
إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
هلا سألت العرب يا ابنة مالك
كم مات منهم؟ كم؟ بغير تكتم
فلكم إذا فهم الكورونا ذلة
كم سامهم قتلا بغير تكلم
ومما جاء في تشطير الدكتور عارف الشيخ لهذه القصيدة قوله:
(لا تعجبي من حالتي ولتسألي)
من شئت من أبناء هذا العالم
أو فاقرأي في النت سيرة عنتر
(إن كنت جاهلة بما لم تعلمي)
(هلا سألت الغرب يابنة مالك)
هلا سألت «الصين» مهد تقدم؟
كم عانت «الوهان» مع «إيطاليا»
(كم مات منهم كم بغير تكتم)
(فلكم أذاقهم «كورونا» ذلة)
حتى أصيب طويلهم بتقزم
عجبا «كورونا» لا يزال يذلهم
(ويسومهم قتلا بغير تكلم)
حتى يعود «المستبد» لرشده
ويخر لله العظيم المنعمأما قصيدتي فسأذكرها في آخر المطاف، ولذا فإنني أبادر إلى ذكر بعض الملاحظات قبل ذلك:
1- نسج الشاعر الأول قصيدته على منوال قصيدة الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد العبسي، وهي التي كان مطلعها:
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
وعمي صباحا دار عبلة واسلمي
فاستخدم لذلك البحر الشعري والقافية واسم عبلة. وهذا أمر يجري عند الشعراء، وهناك قصائد كثيرة متشابهة في ديوان العرب وهو الشعر.
2- نلاحظ أنه اتجه اتجاها فيه بعض الدعابة والفكاهة مع حسن التعبير عن ذلك الظرف الذي عاشته دنيانا. وكان ظرفا -كما وصفناه فيما تقدم- نحتاج فيه إلى بعض الترويح عن النفس.
3- بدأت هذه القصيدة بشطر ببيت من أبيات قصيدة الشاعر عنترة، وهو قوله:
يا دار عبلة بالفناء تكلمي
وعمي صباحا دار عبلة واسلمي
وهو البيت الذي أشرنا إليه آنفا مع استبدال لفظ الجواء بلفظ الفناء، وكان هذا هو البيت الثاني من أبيات معلقة عنترة، أما مطلعها فكان:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهمومن الملاحظ أن عنترة وقد قال منذ البداية: هل ترك الشعراء مقالا لقائل، قد جاء بقصيدته هذه وهي تضم خمسة وسبعين بيتا من الشعر. يتحدى فيها أولئك الذين قالوا عنه أنه لا يقدر على إنشاء القصائد الطوال، بل هو يقول البيت والبيتين فقط، فكانت هذه القصيدة ردا عليهم، وبداية لقصائد أخرى طويلة من شعره. ويشير عنترة إلى ذلك في أحد أبيات قصيدته فيقول:
نبئت عمرا غير شاكر نعمتي
والكفر مخبثة لنفس المنعموعمرو هذا رجل بني عبس انتقص عنترة حسدا له، فجاءته هذه القصيدة منكرة عليه ذلك. وفيها يصف عنترة نفسه:
لما رأيت القوم أقبل جمعهم
يتذامرون كررت غير مذمم
يدعون عنتر والرماح كأنها
أشطان بئر في لبان الأدهم
ويصف فيها حصانه قائلا:
وأزور من وقع القنا بلبانه
وشكا إليّ بعبرة وتحمحم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
ولكان لو علم الكلام مكلمي(مال الحصان بصدره عن السلاح المرسل في المعركة، وأصدر صوتا كأنه الشكوى، ولم يستطع التعبير عن حاله، لأنه لا يقدر على ذلك).
ثم أمضى نصف القصيدة في الفخر بنفسه وذم حاسديه، وعندما بدأ نصفها الثاني كان ذلك في وصف ابنة عمه عبلة وذكر محاسنها، وألمه لفراقها بعد أن رحل أهلها. ثم صار يصف رحلته بحثا عنها، ورغبته الملحة في لقائها، مبينا الحالة التي كان عليها حين امتطى ناقته وبادر إلى ذلك. وبعد أن تحدث إلى محبوبته صار يتحدث عن نفسه، فيقول:
أثني علي ما علمت فإنني
سمح مخالطتي إذا لم أظلم
فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل
مرٌّ مذاقته كطعم العلقم
***
هذا، وعنترة من أبطال العرب على الحقيقة، وهو بطلهم - أيضا - في خيالات القصص الشعبية التي نسجت حول شجاعته، وحول حبه لابنة عمه عبلة. كما أنتجت حول حياته أفلام سينمائية كان إقبال الناس على مشاهدتها كبيرا جدا، حتى إنها لتعرض إلى اليوم على شاشات التلفزيون فلا يملها المشاهدون، وعندنا - في الكويت- أدخل الفنان عبدالحسين عبدالرضا هذه الشخصية في واحد من أعماله الناجحة - وكلها تحظى بالنجاح- فأورد حول عنترة فقرة من فقرات «أوبريت بساط الفقر» الذي تولى هو بطولته بمشاركة الفنانة سعاد عبدالله. وقد بلغ من إعجاب المشاهدين به أنه تكرر عرضه، وتكررت مشاهدته، وأصبح الناس يتداولون -فيما بينهم- بعض جمل الحوار الذي جرى في هذه الفقرة إعجابا بها، وتذكرا للمواقف الباسمة التي مرت ضمن هذا العمل الناجح.
***
وآن هنا أوان ذكر القصيدة التي كتبتها على غرار القصيدة التي أشرت إلى ورودها عن طريق الأخ الكريم مساعد أحمد الجراح وهي قصيدة تتناول الموضوع نفسه، ولكنها تبدأ بداية مختلفة، فهي تضع اسم فتاة كويتية في مكان عبلة إشارة إلى أن حديثي هذا ينصب على وصف الحال هنا. فقلت في المطلع:
يا دار حصة في الكويت تكلمي
ودعي السكوت فما به من مغنم
وقد قام الأخ د.عارف الشيخ بتشطير هذه القصيدة كما فعل مع القصيدة الأولى، فقال:
(يا دار حصة في الكويت تكلمي)
وعمي، ولا تهني ولا تستسلمي
هاتي أناشيد الغرام وأنشدي
(ودعي السكوت فما به من مغنم)
إلى أخر ما كتب:
وأما قصيدتي فأرجو أن يسمح المقام بتقديمها كاملة وهي:
يا دار حصة في الكويت تكلمي
ودعي السكوت فما به من مغنم
قولي لصاحبة المكان تمهلي
وبما أردت من الأمور تحكمي
وقفي وراء الباب وقفة حالم
ينوي خروجا فاق كل محرم
الكل باق كالسجين بداره
واها له من يائس مستسلم
والشرطة اصطفوا بكامل جدهم
يترقبون خروج كل مذمم
قرّي ببيتك لا فكاك فإننا
في عهد هذا الجائح المتحكم
وتفرغي للطبخ فهو وسيلة
مضمونة تنسيك كل توهم
وامضي على أمل النجاة فإنه
حبل يقيك، فصابري لا تسأمي
إن «الكورونا» قد غزتنا عنوة
ورنت لنا بتهكم وتجهم
ولها على أرض الكويت مواقع
عدت فكانت نحو ألف مخيم
صعب على الأبطال كبح جماحها
لا عنتر العبسي ولا من ينتمي
يا ربة البيت الذي جاءت له
هذي القصيدة نحو قصدك اقدمي
قولي لعبلة ما لعنتر واجما
وهو الذي في الحرب شبه الضيغم
إن كان موقعه بعيدا فاعمدي
يا عبل للموبايل ثم ترنمي
قولي له أقبل فإنك فارس
تجري بطولتك الشهيرة في الدم
لكنه يخشى «الكورونا» مثلنا
يصغي إلى ما قلت دون تقدم
كل يخاف الموت حتى عنتر
ولى على عجل ولم يتكلم
هذا أوان البيت نمكث دائما
فيه على مضض بأنف مرغم
فابقي مكانك لا خروج وحاذري
إن الخروج اليوم أكبر مغرم
إن كان يغريك الخروج فإنه
مرّ التذوق كاحتساء العلقم
> > >يا حصة استمعي لنصحي إنه
قد جاء عن صدق وطول تألم
قولي قبلت وسوف أبقى ههنا
في البيت في قفازتي وتلثمي> > >قد تكون هذه الذكريات غير سارة، لكنها الآن وقد مرت أخطار الوباء، فإننا نتذكر تلك الأيام التي عشناها في معاناة وخوف، ثم نحمد الله على النجاة. ونردد بيننا ما جرى فيها، ومن ذلك ما ورد من شعر لم يخل من الابتسامة.