بيروت - أحمد عز الدين
حكاية الجنوبيين مع التهجير سلسلة من المآسي لا تنتهي، فقد استوقفتني عبارة أثناء تقديم التعازي بأحد الاقارب، لرجل ستيني يهنئ أخاه بالعودة إلى قريتهم الجنوبية بعد توقف الحرب الإسرائيلية الموسعة على «حزب الله» وتاليا لبنان، وإعلان وقف إطلاق النار بالقول: «الحمد لله على السلامة في التهجير السابق (حرب يوليو 2006) هربنا ومعنا الوالدان الأب والأم. وهذه المرة ذهبنا وحدنا كل على انفراد بعد وفاة الوالدين. وفي التهجير المقبل ينزح أولادنا وحدهم ونكون قد غادرنا هذه الدنيا».
هذه العبارة سقطت على مسامعي كالصاعقة وحضرت في ذهني حكاية الجنوبيين مع العذاب والتهجير، وحركت في ذاكرتي شريط مسلسل التهجير والمعاناة.
التهجير الاول كان صيف عام 1972 وكان محدودا، ولم يترك عدد كبير من المدنيين قراهم، لأن تلك الحرب الإسرائيلية جاءت مباغتة، ولم تواجه جيش الاحتلال أي مقاومة عدا الجيش اللبناني الذي تصدى ببسالة وفجر الألغام في طريقه لعرقلة تقدم الجيش الإسرائيلي، وسقط شهداء لجيشنا.
وتوهجت أمام ناظري تلك الليلة الصيفية المقمرة وكنت يومذاك طفلا، حيث أمضى جنود الغزاة الإسرائيليين ليلتهم في العراء مقابل منزلنا القروي الصغير. لم يقاربنا النعاس طوال الليل كله ونحن نراقبهم خوفا واستغرابا حتى الصباح.
التهجير الثاني كان في مارس عام 1978 وسمي «عملية الليطاني». فالليطاني كان شاهدا باستمرار على حروب إسرائيل.
يومذاك أصدر مجلس الأمن الدولي القرارين 425 و426. الاول يدعو إلى الانسحاب الإسرائيلي، والثاني تضمن تشكيل القوات الدولية «اليونيفيل» التي لاتزال تعمل في جنوب لبنان.
إلا ان الجيش الإسرائيلي لم ينسحب، بل تراجع حتى ما سمي بـ«الشريط الحدودي» في المناطق التي بقيت فيها القوات الإسرائيلية اليوم بعد اتفاق وقف النار مع تعديلات بسيطة. واستمر هذا الشريط حتى التحرير في 25 مايو من العام 2000.
التهجير الثالث في العام 1982 وهو الأطول، اذ وصل الجيش الإسرائيلي إلى العاصمة واحتل بيروت، ودفع بمنظمة التحرير الفلسطينية إلى مغادرة لبنان.
اجتياح كان الأطول توغلا، ثم بدأ بالانحسار تدريجيا حتى العام 1985 إلى منطقة الشريط الحدودي.
التهجير الرابع في حرب يوليو عام 1993، ولم يكن طويلا، اذ توقف بعد وقت قصير.
التهجير الخامس في العام 1996، وكانت المحطة الأبرز في 18 ابريل مع وقوع المجزرة الشهيرة في قانا، والتي هزت العالم، بعد قصف الجيش الإسرائيلي خيمة كبرى للقوات الفيدجية العاملة مع الأمم المتحدة في البلدة، وقتلت المدنيين الذين لجأوا إلى المقر. وخلال تلك الحرب، تم التوصل إلى «تفاهم نيسان/أبريل» بجهود غير عادية من الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وقد نظم هذا التفاهم عمليات المقاومة في الجنوب والرد الإسرائيلي عليها.
ثم جاء التحرير العام 2000 وعاش الجنوبيون للمرة الأولى منذ أعوام حالة من الأمن والاستقرار والرخاء لم يألفها سكان القرى وخصوصا الحدودية منها، حتى جاءت حرب يوليو 2006 التي استمرت 33 يوما، وعاد التهجير، وذهب الحلم الكبير الذي عاشه الجنوبيون على مدى ستة أعوام وكانت نتائجها قاسية كثيرا عليهم. وأخيرا التهجير الذي بدا في 22 سبتمبر الماضي واستمر 67 يوما.
شريط عبر على وقع ضربات جوية إسرائيلية في الساعات القليلة الماضية، جعلت الناس في محيطنا يعدون العدة للرحيل.