لو كان هناك فيلم يمكن اعتباره مثالا صادقا على عنوانه، فقد يكون فيلم السيرة الذاتية عن بوب ديلان، «A Complete Unknown»، للمخرج جيمس مانغولد، لأنه في نهايته يترك لنا انطباعا دقيقا عن بطله: رجل غامض يظل غير معروف تماما. والسبب واضح: لا يحاول مانغولد تقديم سيرة شاملة للمغني، ولا يقدم صورة نفسية متعمقة له، كما أنه لا يتملق الجمهور أو يسعى إلى تمجيده. بدلا من ذلك، يجسد الفيلم روح حقبة زمنية ويستكشف تأثير ديلان على من حوله. وإذا كان هناك وصف موجز يمكن أن يلخص شخصيته، فهو الاقتباس الذي يأتي على لسان جوان بايز (مونكا باربارو): «إنه وغد».
لم يشارك بوب ديلان رسميا في أي جانب من جوانب الإنتاج، بل لم يذكر اسمه حتى في تترات النهاية، لكنه قرأ السيناريو وقدم بعض الملاحظات. ومع ذلك، فإن رؤية الفيلم لديلان ليست إيجابية بأي شكل - فهو أقرب إلى الخصم منه إلى البطل - ما يشير إلى أنه قد وافق على هذا التصور. يذكرنا ذلك بعض الشيء بالفيلم «Better Man» لروبي ويليامز، حيث لم يمانع في تقديم صورة غير مثالية عن نفسه (على الرغم من أن تيموثي شالاميه لا يؤدي دور ديلان على هيئة قرد كما حدث مع ويليامز في فيلمه).
يغطي الفيلم فترة تمتد لحوالي أربع سنوات، تبدأ في عام 1961 عندما يزور ديلان مستشفى غرايستون بارك للأمراض النفسية للقاء مثله الأعلى، وودي غوثري (سكوت مكنيري)، وتنتهي عام 1965 بعد أدائه المثير للجدل في مهرجان Newport Folk Festival، حيث قرر العزف باستخدام آلات كهربائية، ما أثار غضب الجمهور وأدى إلى ردود أفعال غاضبة. خلال هذه الرحلة، يمر بعلاقات متقطعة مع امرأتين: سيلفي روسون (إيل فانينغ، المقتبسة عن سوزي روتولو، التي طلب ديلان عدم استخدام اسمها الحقيقي)، والمغنية جوان بايز (مونكا باربارو). كما يتعامل مع الشهرة ببرود غامض، ويكون صداقات مع بيت سيغر (إدوارد نورتون) وجوني كاش (بويد هولبروك)، في حين يدير أعماله مديره المتسلط، ألبرت غروسمان (دان فوجلر).
على الرغم من أن الفيلم يضم العديد من أشهر أغاني ديلان، التي يؤديها تيموثي شالاميه بنفسه بقدرة مقنعة على محاكاة أسلوب غنائه الأنفي، إلا أنه ليس فيلما موسيقيا تقليديا ولا «جوكبوكس» (أفلام تعتمد فقط على الموسيقى الشهيرة لجذب الجمهور). بدلا من ذلك، يتعامل مع الموسيقى كجزء من السرد، حيث تأتي الأغاني في سياقات طبيعية مثل التسجيلات في الاستوديو أو العروض الحية. يعتمد مانغولد هنا نفس النهج الذي اتبعه مع موسيقى جوني كاش في فيلمه «Walk the Line».
في أفضل حالاته، يبدو ديلان كشخص غير مبال. في أسوأ حالاته، يكون قاسيا ومتعجرفا - رغم أنه ربما لا يرى ذلك بنفسه. يؤذي سيلفي مرارا وتكرارا، وعلاقته بجوان متوترة إلى حد أن الأخيرة تصفه بـ «الوغد» في إحدى اللحظات، و«الأحمق» في أخرى. لا يظهر عاطفة تجاه أحد، وينسحب من علاقة رومانسية مع امرأة تعترف له بحبها لمجرد أنه لم يعرفها لفترة طويلة كافية. كما أنه لا يهتم بمشاعر معجبيه، ويبدو مصابا بجنون العظمة.
يقدم شالاميه أداء يغوص فيه بالكامل في شخصية ديلان، فيلتقط ملامحه، حركاته، أسلوبه في الحديث، حتى طريقته في الغناء. وهذا يطرح السؤال الدائم: إلى أي مدى يعتبر هذا الأداء تمثيلا حقيقيا، وإلى أي حد هو مجرد تقليد؟ في النهاية، لا يهم، لأن الفيلم يجعلنا نصدق أننا نشاهد ديلان يتجول في نيويورك الستينيات. ينجح مانغولد في إعادة خلق تفاصيل هذه الحقبة بشكل دقيق، ما يمنح الفيلم طابعا يجمع بين الواقعية والغرابة.
لا يحتاج المشاهد لأن يكون من محبي ديلان للاستمتاع بالفيلم، لأن القصة تدور حوله في سياق زمني معين، وليس كشخصية مستقلة. بل يمكن القول إنه مجرد حضور في القصة أكثر من كونه شخصية ذات أبعاد واضحة. لا نعرف الكثير عن ماضيه، ولا يحاول مانغولد الغوص في دوافعه أو تفكيره. يقول ديلان في أحد المشاهد إن الناس يختلقون قصصهم وخلفياتهم طوال الوقت، في تلميح إلى فكرة الهوية المتغيرة التي نجدها أيضا في شخصية «الجوكر» في «The Dark Knight». حتى اسمه الحقيقي، روبرت زيمرمان، تخلى عنه، لأنه أحب صوت اسم «ديلان» أكثر. يعتمد السيناريو على نشرات الأخبار التلفزيونية كوسيلة لتحديد المشاهد ضمن أحداث تاريخية مهمة، مثل أزمة الصواريخ الكوبية واغتيال جون كينيدي.
بالطبع، تقدير موسيقى ديلان - خاصة أعماله المبكرة - سيجعل تجربة الفيلم أكثر تأثيرا. حتى عنوانه مستوحى من كلمات أغنيته الشهيرة «Like a Rolling Stone». لكن بالنسبة لمن يبحث عن فهم أعمق لهذه الشخصية العبقرية والغامضة، قد لا يجد الإجابة هنا. الفيلم ليس سطحيا، لكنه لا يحاول تحليل ديلان نفسيا. ما يوضحه بشكل أساسي هو مدى صعوبة التواجد في دائرته. موسيقاه أيقونية وتمس الكثيرين، لكن منذ البداية وحتى النهاية، يظل ديلان «A Complete Unknown» - رجلا غامضا وغير معروف بالكامل.