تكاد مجتمعاتنا تكون الأكثر تدخلا في شؤون الآخرين، وفي الوقت نفسه هي الأكثر تشدقا بالخصوصية ومناداة بها، ولا يحتاج عنوان هذه المقالة إلى سرد فصول التطفل و«ظرائف» الفضوليين التي نعاني منها، فلا أكثر منهم في حياتنا، تراهم يدعون الأستاذية في كل شيء ويتبجحون بالمعرفة في كل علم، وفي بعضهم نزعة فرض الرأي على الآخرين والوصاية على الغير، ويريدون من «كل أحد» أن يكون كتابا مفتوحا للآخرين يتصفحون أخباره، ويغوصون في أسراره.
إن «التطفل» آفة مزعجة، وسلوك مشين، حرمته الشريعة الإسلامية قبل أن تنبذه المجتمعات المتحضرة فثقافتهم تعتبر الخصوصية حقا بديهيا لكل أحد، وأن أنماط الحياة خيار شخصي لا يمكن فرضها أو اكراه الناس عليها، فالله سبحانه قال: (ولا تقف ما ليس لك به علم)، ونبينا صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم فقال في جملتين جامعتين نافعتين قبل 1445 سنة: «احرص على ما ينفعك» وقال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
وهذه الأيام تعددت ملامح دس الأنوف في مشاكل الناس وإمطارهم بالأسئلة المحرجة لنبش خباياهم واستعراض طرق معيشتهم الخاصة، فالفضولي إذا رأى سيارة صاحبه يقول: سيارتك قديمة «ليش ما تجدد»، وإذا بدل سيارته بأخرى جديدة سأله: كم سعرها؟ ولماذا اخترت هذا اللون؟ و«ماخذها غالية حيل» ثم ينتقد وينظر: «ليش استعجلت؟» ولو أنك اشتريت من الوكالة الفلانية، وليتك أخذتها كاملة المواصفات... وووو، ليذهب صاحب السيارة وقد ارتجت قناعاته بما عنده وبما أقدم عليه.
وإذا سمع «الملقوف» أن فلانا تزوج أو سافر أو بنى بيتا، قال: فلان تزوج وما قال، و«ليش تزوج أرملة أو سيدة أكبر منه؟» و«كيف سافر وما خبرنا؟»، و«شلون ما علمنا أنه بيبني بيته»؟.
وقد يتلون الفضولي ويغير جلده حسب كل مقام، فتراه طبيبا وصيدلانيا، ومعالجا وميكانيكيا، ومهندسا معماريا ومدنيا، فإذا ارتدى ثوب «الدكترة» لام صاحبه على أخذ دواء ما أو الذهاب لطبيب ما أو السفر للعلاج في دولة ما، فيصيبه بالإحباط واليأس والغم والهم.
وإذا تلبس لبس المهندسين سأل صاحبه الذي أنهى تشطيبات منزله عن المكتب الهندسي والمقاول والمصمم وشركة الأثاث، منتقدا ألوان الصبغ وطقم الكنفات وتوزيع الإضاءة وموضع الحمام وموقع الصالة ومدخل البيت، فيحرجه ويجرحه بهذا التدخل السافر، لأنه لم يكن على مزاجه وهواه، وهكذا لا يروق للمتطفل الحال إلا عندما يمارس حياته كمخطط للآخرين الذين يفترض بهم أن يصغوا لنصحه وحكمته وذوقه ورأيه في كل شيء.
ثم إذا ذهب إلى عرس انتقد الصالة والطعام، فيسأل: ليش اخترت هذه الشركة؟ وكم كلفت عليك؟ وليش ما ذبحت بعير؟ فيحشر أنفه في كل صغير وكبير.
وفي المسجد عينات مختلفة من الفضوليين ممن لا شغل لهم إلا التدخل في أوضاع المسجد وفرشه وسجاده، ومكيفاته وديكوراته وفلان ليش يصلي على اليمين. وإذا رأى مصليا يلبس دشداشة شتوي، قال له: «يا أخي نحشت البرد»، وإذا لبس صيفي قال: «جبت لنا البرد».
وفي كل ديوانية عامة وتجمع عائلة ومكان عمل وزملاء دراسة لا يخلو الأمر من هؤلاء المزعجين والمزعجات الذين لا يتركون البشر في حالهم بل يكيلون لهم بما يضيق الصدر ويجلب الحزن.
في الختام، أيها المتطفل الكريم: نزه نفسك عن أذية الآخرين بأسئلتك وإحراجاتك وانتقاداتك؟ فليس واجبا على الجميع أن يكونوا على نظامك وذوقك؟، ولست أنت الجهبذ الأعظم أو الحكيم الأفهم، أو صاحب الرأي الأوحد، وإمام المذهب الأرجح الذي يجب أن يحشر أنفه في كل شاردة وواردة وكبيرة وصغيرة.
ليت الفضوليين يعلمون أن عيوبهم أولى بالمراقبة والنصيحة من التفرغ لعيوب الناس، وليتهم يدركون أن أسرار الناس حصون لا يحبون لأحد أن يخترقها أو يقترب منها، وأن انتقادهم للخلق ينفر منهم ومن صحبتهم ورفقتهم ومعاشرتهم، وأن لكل انسان ظروفه التي لا يعلمها من البشر إلا هو.
كلمة أخيرة: تأكد أن مراقبة الناس مرض نفسي مهلك، ومن راقب الناس سيموت غما وهما، فدع الخلق للخالق وركز في حياتك، واشتر راحة بالك وراحة الآخرين، واحرص على ما ينفعك.. فالحياة قصيرة لا متسع فيها لهذا الهراء.
[email protected]