من أكثر الأمور مشقة على النفس البشرية أن يجد الوالد من ولده أو ابنته جفوة وقسوة، وفجوة وهوة، أو أن يرمقه بين الحين والآخر بنظرة حادة أو يعامله على أنه ند له لا يفوقه مرتبة، ولا يعلوه بدرجة.
وإذا كان الولد يفعل ذلك مع أبيه الذي هو سبب وجوده في هذه الحياة، فلا غرابة أن يكون تعامله مع أرحامه وأقاربه وكبار السن وأصحاب العلم والمكانة والشرف أشد قسوة وأكثر فظاظة وأقل احتراما، فتراه لا ينزل الناس منازلهم ومقاديرهم، ولا يحترم مراتبهم ومزاياهم.
ومنذ عهد قريب بدأنا نرى في بعض الأولاد والبنات سلوكيات عجيبة وتصرفات غريبة لم نألفها من قبل، فبعض الذين وضعوا أقدامهم لتوهم على بدايات أيام الشباب، يغذون مساعيهم الفطرية نحو الاستقلالية عن الأسرة، والانفرادية عن الوالدين، فتراجعت أخلاقهم وتقهقرت سلوكياتهم، وظهرت عليهم تصرفات سمجة من التبجح في الكلام والرعونة في التعامل.
العديد من الآباء والأمهات يتحملون من مثل هؤلاء الأبناء أحمالا من المرارة وآهات من الوجع النفسي، مصحوبة بإحباطات متكررة وخيبات أمل مستمرة، وما لذلك تفسير إلا بأنه عصيان للرحمن وجحود للإحسان ونكران للعرفان. وهناك أعمام وعمات، وأخوال وخالات وأجداد وجدات هضمت حقوقهم في التبجيل والتقدير من بعض الذين أطلوا بأعناقهم حديثا من نافذة الحياة، فبرزت مظاهر فجة من قلة الاحترام مع الأقارب والأرحام.
هناك أسر وعائلات تعيش قهرا صامتا بسبب الأبناء والبنات، فلم نكن نصدق يوما أن يتجرأ الولد على مد قدميه في حضرة أبيه، أو النوم في مكان يجلس أبواه فيه، أو أن يستعجل الطعام قبل حضور والديه. لم تكن لغة الأوامر من الولد لأبيه ومن البنت لأمها في قاموس حياتنا، اليوم يستخدم الأولاد مع والديهم أساليب متنوعة من التذمر والتوبيخ والملامة والإصرار على طلب شيء، بجمل الجافة وعبارات يابسة يشوبها العقوق والخذلان وقلة التوفيق والحرمان، بدلا من خفض الجناح والتلطف والإحسان والتواضع، فاليوم نفتقد المنطق الراقي، والكلام «السنع» الذي تعودنا عليه فغابت «الذرابة» في القول والذوق في التصرف فلا لياقة ولا حشيمة عند كثير من الشباب.
لم يكن الواحد فينا يتثاقل عن القيام لدخول والده أو النوم بحضرته أو التسابق لمساعدته أو أخذ ما في يده. كانت مجتمعاتنا قائمة على الاحترام والتقدير والبر والتوقير، واليوم يتجرأ البعض على والديه بـ «عطني ماي» و«أبي فلوس» و«ليش ما توديني الألعاب؟»، بل الكثير من شباب اليوم يرجع لبيته بعد الـ 12 ليلا، وإذا ما تجرأ والده أو أمه على سؤاله رد بكل صفاقة: «يبا صرت كبير».
نعم هناك تحولات مجتمعية مخيفة جعلت هذا الجيل غير مكترث بأمه وأبيه، وعمه وعمته وخاله وخالته وجده وجدته، وغير آبه بما لكبار السن من قدر يوجب الاحترام، فلا يرون في هؤلاء إلا «أناسا تقليديين» أو «دقة قديمة» وأن العصر هو عصر الشموخ والنفس الأبية. هناك آباء وأمهات يتحسرون على جفوة ولدهم أو ابنتهم، فلا يتفقدونهم إلا مرة في الأسبوع، ولا يصلون أقاربهم من الدرجة الأولى إلا مرة كل حين وحين.
في الختام: الجلوس مع الآباء والأمهات ومؤانستهم وإعانتهم فيها أجر عظيم بل هي أفضل مرتبة من أحب الأعمال الصالحة. فاعلموا يا أبناءنا وبناتنا أن في كل لحظة تجلسونها مع والديكم إنما هي بر وعبادة، وتوفيق وفلاح وإن تواصلكم الدائم مع الأرحام والأقارب والجيران وأهل العلم، واحترامهم وتقديرهم وإنزالهم منازلهم نعمة عظيمة لا يدركها إلا الموفقون، أما عاثرو الحظ والمفلسون، فإنهم يتجنبون القيم والتمسك بالأصول، وحتى إن جلسوا بأجسادهم مع آبائهم وأمهاتهم وأرحامهم، فإنهم يهيمون في واد من مواقع التواصل وما فيها من سيول جارفة من صور ومقاطع وأخبار لا تنتهي.
ويأيها الآباء والأمهات.. احموا أبناءكم من رفض المجتمع لهم ولفظه لطريقة تعاملهم.. واغرسوا فيهم قيمة احترام الكبار وعلموهم أن ذلك عز ورفعة عظيمة وقيمة أخلاقية كبيرة، عودوهم على انتقاء العبارات اللطيفة والأسلوب الراقي.. فعندما يكبر الطفل المربى سيدعو الناس لوالديه ويقولون: الله يرحم البطن اللي حملك.. والأب اللي رباك.
كلمة أخيرة: الكلام السنع وأدب الحوار و«الذرابة» إنما هي أرزاق من الله واكتساب من عباد الله، ليست هي سلع تباع وتشترى، إنما هي سمة ظاهرة وميزة ناطقة في وجه من تلقى التربية السليمة من أمه وأبيه، أما الخادمات.. فلسن الوجهة الصحيحة لتربية أجيالنا على ديننا وقيمنا وأخلاقنا وعاداتنا.
[email protected]