ما بين العادات وزواج الأقارب من جهة والخوف من ردة فعل المجتمع من جهة أخرى، تتأرجح الأمراض الوراثية حاصدةً أعداد كبيرة من المرضى في الخليج العربي عموماً والكويت خصوصاً، فارضة واقع التعايش مع أعراض مؤلمة وموجعة وخوض رحلة العلاجات الطويلة التي لا تزال تنتظر المزيد من الأبحاث والدراسات والمبادرات لاكتمالها. صحيفة الأنباء استوضحت من أخصائية الأمراض الوراثية الاستقلابية الدكتورة نوال المخصيد عن هذا الموضوع وسبل الوقاية والعلاج.
يعتبر زواج الأقارب العامل الأهم والأبرز لارتفاع معدل انتشار الأمراض الوراثية في المنطقة والكويت، وتشير المخصيد إلى أنّ نسبته تتعدى الـ 50% في الكويت وسائر دول الخليج العربي، محذرةً من أنّه يتسم بالخطورة خصوصاً وأنّه يزيد من احتمالية إصابة الأطفال بالكثير من الأمراض.
ووفق المخصيد، فإنّ خطورة زواج الأقارب تكمن في أنّ أكثر العائلات التي تسمح به تتجاهل حقيقة أنّه سبباً رئيسًا لحدوث الأمراض الوراثية وَينسبونَها إلى معتقدات قديمة مثل العين وَالحسد، متذرعين بإجرائهم فحوص ما قبل الزواج، محذرةً من أنّ هذا الأمر خطأ شائع انطلاقاً من أنّ هذا النوع من الفحوص لا يظهر قابلية الإصابة بالأمراض الوراثية لدى الأطفال من عدمه.
وفي حين يحضر وينفذ العديد من المبادرات المرتبطة بالأمراض الوراثية في الكويت على مدى العقود القليلة الماضية، لا تزال نسبة انتشار هذه الأمراض عالية وفق المخصيد إذ تشير إلى أنّ تشخيص هذه الأمراض صار أكثر سهولةً بسبب توفر الأجهزة والطواقم الطبية المخصصة لها، ولكن هذا لا يعني أنّ النسبة قد قلّت بقدر ما يدل على ارتفاع الوعي وسرعة الكشف المبكر عن مجموعة لا بأس بها من هذه الأمراض وبالتالي تدارك مضاعفاتها.
ومن أبرز الأمراض الوراثية النادرة هي غوشيه Gaucher وهانتر Hunter وفابري Fabry وتختلف أعراضها من شخص إلى آخر.
غوشيه
وينقسم غوشيه، وفق المخصيد، إلى ثلاثة أنواع فرعية سريرية مشتركة. يستهدف النوع الأول، وسببه نقص وراثي في أنزيم غلوكوسيريبروزيداز، الجهاز العصبي حيث يصيب الأعضاء التي تترسب أو تتجمع فيها المواد الدهنية والتي لا يستطيع الجسم تكسيرها مثل الكبد والكلى والطحال، ما يؤدي إلى اضطرابات في الهيكل العظمي وإصابات مؤلمة في العظام، كما ارتفاع ضغط الرئة، وتورم الغدد اللمفاوية وأحيانًا المفاصل المجاورة، وانتفاخ في البطن، وفقر الدم، وانخفاض صفائح الدم ونقص الهيموغلوبين والإمساك والهزال وضعف الشهية. ويمكن علاج بعض أشكال هذا المرض ببدائل الانزيم الذي قد ينجح في إعادة الأمور إلى طبيعتها مع المتابعة الدورية المنتظمة، وفق ما توضح المخصيد.
أما أعراض النوع الثاني من داء غوشيه، وفق المخصيد، فتشمل تلف الدماغ بشكل كبير بحيث يفقد الطفل قدرته على التواصل مع العالم الخارجي ويعاني من نوبات تشنجية، وعادة ما يموت الأطفال المرضى في عامهم الثاني بسبب عدم قدرة الأنزيمات عن علاجه.
وتلفت المخصيد إلى أنّ النوع الثالث من داء غوشيه يعتبر أكثر عنفاً من النوع الأول وأقل حدة من الثاني، حيث تظهر أعراضه على الأطفال في سن مبكرة وخصوصاُ في شهورهم الأولى، مسببةً تلفاً واسعاً ومتقدماً في الرأس، مما يسبب التأخر في المشي والكلام واضطرابات في حركة العين مثل الحَوَل والقصور البصري. وبرأي المخصيد، يمكن للأنزيم البديل والدواء المخصص لتفكيك المواد المترسبة في الأنسجة أن يشكّل علاجاً ناجعاً وفعالاً في علاج هذا المرض.
بالإضافة إلى الأنواع الثلاثة المذكورة سابقاً، تكشف المخصيد عن وجود مرض نادر آخر يصيب القلب ويؤدي إلى التكلس الشديد في الصمامات، وتلفت إلى أنّه الأسوأ في فئته كون بدائل الأنزيم عاجزة عن علاجه، وتضيف: "تصادفنا حالات تعاني منه، لذا فإننا في صدد علاجها باستخدام بدائل الأنزيم مقرونة بأدوية أخرى وكلنا أمل أن نتدارك العلاج".
وتعيد المخصيد وتؤكّد أنّ كل هذه الأمراض سببها الرئيسي وراثي وَعرقي لا سيما زواج الأقارب، مشددةً على ضرورة أن يتعرف الأهل الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض الوراثية عليها، وعلى المتابعة الدقيقة للتاريخ الصحي الوراثي، مع إجراء رنين مغناطيسي لعظام الأرجل بهدف التأكد من خلوّها من أي هشاشة أو ضعف.
هانتر
متلازمة هانتر Hunter Syndrome بدورها تعتبر مرضاً وراثياً يرتبط بنقص الأنزيمات والبروتينات اللازمة لكسر السلاسل الطويلة من جزيئات السكر مما يؤدي إلى ترسبها في أعضاء الجسم خصوصاً الكبد والطحال. وتتنوع أعراضها ومنها التغير في شكل المريض مثل كثافة الشعر وخشونته والتصاق الحاجبين ببعضهما وظهور التصبغات في منطقة الظهر والوجه، وكبر حجم الشفتين وتقرحات اللثة وتفرق الأسنان، وتضخم حجم اللسان وبروزه خارج الفم، وَتوسع فتحتي الأنف نتيجة تسطح العظمة الأساسية فيه. كما تحصل بعض التغيرات في تشكيل العظام والعمود الفقري، حيث قد يعاني المريض من بروز القفص الصدري ما يؤدي إلى ضغط إضافي على فقرات العمود الفقري وبالتالي تعرض المصاب للتحدب وتقوس الظهر. وأيضاً يحصل تقوس الأصابع إلى الأمام مما يُفقد المصاب حركة اليدين الطبيعية، وقد تعاني عظمة الفخذ لدى المصاب من النفور بسبب انفصالها عن عظمة الحوض مما يسبب له العجز في المشي والفتاق في السرة، وفق المخصيد.
وتعدد المخصيد أيضاً عوارض أخرى قد يعاني منها المريض وهي السعال وسيلان الإفرازات المخاطية وترسبها في صمامات القلب مما يسبب اعتلال في عضلته ووظائفه. كما يشعر المصاب بنزلات البرد متكررة ويعاني من الشخير والاختناق الليلي. وعن العلاج تطمئن المخصيد إلى أنّ العلاج المبكر بالأنزيم البديل قد يساعد في الحفاظ على الأعضاء المستهدفة من التلف والتشوه.
فابري
أما بالنسبة إلى داء فابري Fabry فتوضح المخصيد أنّه ينتقل بالوراثة بسبب خلل في جين محمول على الكروموسوم X ، وهو يصيب الذكور بشكل أساسي كما أنّ بعض الإناث قد يختبرن أعراضه أيضاً التي تبدأ بالظهور خلال مرحلتي الطفولة والمراهقة وهي عبارة عن الإحساس بالخدر في النهايات العصبية للأطراف مثل اليدين والساعدين والقدمين والساقين، وآلام عصبية، بالإضافة إلى اضطراب حسي وارتفاع في درجة حرارة الأطراف. وتحذر من أنّ الأعراض سرعان ما تتطور لتشمل القلب كظهور اضطراب في وظائفه ومنها حدوث التضخم نتيجة الترسبات في نسيجه العضلي. وتعتبر الإناث أكثر عرضة للإصابة في القلب من الذكور، بالإضافة إلى إمكانية الإصابة بالفشل في وظائف الكليتين نتيجة حدوث تلف في نسيجهما مما قد يتطلب عملية غسيل لهما.
ومن أخطر أعراض فابري، وفق المخصيد، حدوث التقرحات الوعائية angiokeratomes حول منطقة السرة ومؤخرة الفخذين ومنطقة الخصيتين لدى الرجال، فضلاً عن الإصابة بالترسب في قرنية العين كما ظهور مشاكل في الجهاز الهضمي لدى الأطفال ومنها الألم الحاد والمتكرر في البطن نتيجة وجود ترسبات وَضيق في الشرايين التي تمد الأمعاء بالغذاء.
وتشدد مجدداً المخصيد على أهمية وضرورة الكشف المبكر في كل الحالات والأعراض لِتدارك مخاطر فابري الجسيمة. وتوضح أنّ داء فابري غير شائع في منطقة الخليج العربي ربما لصعوبة تشخيصه وعدم وجود خلفية طبية حوله بشكلٍ كافٍ لدى الأطباء المعالجين. وتطمئن إلى أنّ الأنزيم الدوائي المخصص لعلاج داء فابري متوافر في الكويت، لافتاً إلى ضرورة وضع المريض تحت المتابعة المستمرة للتأكد من تلقي العلاج بطريقة سليمة.
ورداً على سؤال عن دور العوامل الاجتماعية للعرق في انتشار الأمراض الوراثية، تؤكّد المخصيد هذا الدور وتشير إلى أنّ شدة المرض تتباين بين العائلات المصابة في الخليج، فالخلل الوراثي في جينٍ ما يتشابه فيما بين العائلات بغض النظر عن مكان تواجدها نتيجة لانتشار زواج الأقارب.
الكشف المبكر، التوعية والعلاجات
تؤكّد المخصيد أنّه لا يمكن إغفال أهمية التشخيص المبكر والحصول على الإنزيم والاختبار الجيني في إنجاح علاج الأمراض الوراثية، خصوصاً في ظل توافر الاختبار الجيني وتعاون شركات الأدوية في تسريع التشخيص الأنزيمي والتشخيص الجيني للحالات، مما ينشط عملية البدء بالعلاج في أسرع وقت لتدارك أي أعراض عصية على العلاج في حال تفاقمه.
وإذ تشير إلى أهمية التعليم على مختلف المستويات ودوره في تقليل حدوث الاضطرابات الوراثية، تأسف المخصيد إلى أنّ أغلب العائلات التي لديها أطفال مصابون بأمراض وراثية يرفضون الإعلان عن الأمر بسبب خجلهم من المجتمع، ولكنها تبدي بعض التفهم لهذه الحالات وتقول: "مجتمعاتنا تتسم بالفضولية وتشير بالأصابع نحوَ أي حالة غير عادية، لذا فإن ما نستطيع فعله تجاهها هو توعيتها بشأن تاريخها الوراثي، لا سيما أن التكتّم حول وجود مرض خطير ذي تاريخ وراثي ليس أمراً محموداً لا سيما لما لذلك من تأثير على التوعية والحماية المجتمعية".
وعن المقاربات والأساليب العلاجية التي يمكن أن تساعد في شفاء المريض، مثل علاجات استبدال الإنزيم، تؤكّد المخصيد أنّ وزارة الصحة الكويتية تجتهد في استحضار أي دواء جديد معتمد رسمياً ومصادق عليه من قبل منظمة الغذاء والدواء الأمريكية والجمعية الأوروبية للدواء، وعلى الرغم من أثمانها الباهظة إلا أن الوزارة لا تتوانى عن تأمينها فوراً بحيث تكون في متناول الجميع داخل نطاق دولة الكويت.
الأبحاث وتوثيق البيانات
وعن رأيها في كفاية الأبحاث حول موضوع علاجات استبدال الإنزيم لدعم المبادرات التي يمكن أن تتخذها وزارة الصحة، ترى المخصيد أنّها غير كافية نظراً لتزايد عدد المصابين بالأمراض الوراثية بالإضافة إلى عدم توافر الوقت لدى الطواقم الطبية للقيام بمثل هذه البحوث. وتشدد على ضرورة أنّ يسعى الأطباء الكويتيين إلى الاطلاع المكثف والدؤوب على أهم الدراسات التي تُجرى خارج منطقة الخليج العربي في هذا المجال.
وتثني المخصيد على جهود وإنجازات أطباء المملكة العربية السعودية في هذا المجال، مؤكدةً أهمية وجود إمكانات متطورة ودعم مادي ومعنوي ساعد في إظهار براعتهم في هذا المجال، ومتمنيةً أن يحظى أطباء الكويت بالدعم نفسه.
كما تشدد على ضرورة أن يكون موضوع توثيق المعلومات أكثر دقة ودراسة نظراً لحساسيته، كأن يجري اتباع منهجية توثيقية معينة ذات سرية تحفظ خصوصية ملفات المرضى وعائلاتهم بما تحتويه من بيانات يجب أن تعامل بسرية تامة.