المتقون هم الذين من خشية ربهم مشفقون، وبآيات ربهم يؤمنون، لا يشركون بالله، ويتصدقون والخوف يملأ قلوبهم. قال تعالى في حقهم: (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) (المؤمنون: 61).
والمسارعة إلى الشيء المبادرة إليه، والمسارعة في الخيرات هي المبادرة إلى الطاعات وعدم الإبطاء فيها أو تأخيرها والتكاسل عنها، بل مسابقة الآخرين إليها.
وقال تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) (آل عمران: 133).
قال العلامة السعدي: «أمرهم تعالى بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي عرضها السماوات والأرض، فكيف بطولها، التي أعدها الله للمتقين، فهم أهلها وأعمال التقوى هي الموصلة إليها، ثم وصف المتقين وأعمالهم، فقال: (الذين ينفقون في السراء والضراء) أي: في حال عسرهم ويسرهم، إن أيسروا أكثروا من النفقة، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئا ولو قل.
(والكاظمين الغيظ) أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم - وهو امتلاء قلوبهم من الحنق الموجب للانتقام بالقول والفعل- هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.
(والعافين عن الناس) يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله).
ثم ذكر حالة أعم من غيرها، وأحسن وأعلى وأجل، وهي الإحسان، فقال تعالى: (والله يحب المحسنين)، والإحسان نوعان: الإحسان في عبادة الخالق، والإحسان إلى المخلوق. والإحسان في عبادة الخالق
فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، وأما الإحسان إلى المخلوق، فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم، فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم، والسعي في جمع كلمتهم، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم، على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم، فيدخل في ذلك بذل الندى وكف الأذى، واحتمال الأذى، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات، فمن قام بهذه الأمور فقد قام بحق الله وحق عبيده.
والمسارعة بعمل الخير يقف وراءها إيمان بالله وطمع فيما عنده وشعور بالخوف من تفويت فرصة أتيحت لفاعل خير، فهو يسارع باغتنامها خوفا من أن يحول الموت بينه وبين فعلها، أو ألا تتهيأ له ثانية أو يكون غير قادر على فعلها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».
ولك أن تتأمل هذا الحديث الذي رواه مسلم (595)، أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدثور (يعني أهل الأموال) بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، فقال: «وما ذاك؟» قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم؟ ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟» قالوا: بلى، يا رسول الله قال: «تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة»، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء».
وفي الشهر الكريم شهر رمضان علينا بالمسارعة في فعل الخيرات لمرضاة الله، وأن يكون هذا حالنا في رمضان وغيره، ومن المؤكد أن السبق في الخيرات يجعل صاحبه من المفلحين في الدنيا والآخرة، وكذلك المسارعة في الخيرات تجعل صاحبها بمأمن عن الفتن والأمور التي تشغل الإنسان مثل المرض أو الفقر أو الهرم، ويدخل في المسارعة والمبادرة كل أعمال البر، فسارع فقد أزف الشهر على الرحيل، وأحسن ابن قيم الجوزية بقوله:
فَبَادِرْ إذًا مَا دَامَ فِي العُمْرِ فُسْحَةٌ
وَعَدْلُكَ مَقْبُوْلٌ وَصَرْفُكَ قَيِّمُ
فجُدَّ وَسَارِعْ وَاغْتَنِمْ ساعة السرى
فَفِي زَمْن الإمْكَانِ تَسْعَى وَتَغْنَمُ
وَسِرْ مُسْرِعًا فَالْسير خَلْفَكَ مُسْرِع
وَهَيْهَاتَ مَا مِنْهُ مَفَرٌ وَمَهْزَمٌ
ومن درر القوافي:
فَبادِرْ إلى الخَيْراتِ قَبْلَ فَواتِها
وخالِفْ مُرادَ النَّفْسِ قَبْلَ مَماتِها
سَتَبْكِي نُفُوسٌ في القِيامَةٍ حَسْرَةً
عَلى فَوْتِ أوْقاتٍ زَمانَ حَياتِها
فَلاَ تَغْتَرِرْ بِالعِزِّ والمالِ والمُنى
فَكَم قَدْ بُلِينا بانْقِلاَبِ صِفاتِها