قال تعالى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ: الأعراف 43).
اعلم أرشدك الله لطاعته أن الله سبحانه هو الذي هداك وأرشدك إلى ما ينفعك ودلك على طريق الهداية ووفقك للإسلام، فالله سبحانه يبين لنا أنه لم تكن محبتنا للإيمان وإرادتنا له، وتزيينه في قلوبنا من عند أنفسنا، ولكن الله هو الذي جعله في قلوبنا، وهو الذي حبب إلينا الإيمان.
الله أعلم بمصالح عباده من أنفسهم، فربنا سبحانه هدى الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان، فأذعنت نفوسهم للإيمان، فلم يكن الإيمان بمشورتهم، وإنما هو توفيق من الله إذ إنهم بادروا وجاهدوا فاستحقوا هداية التوفيق، أما نحن فأكثرنا ولد من أبوين مسلمين في بلد مسلم وتهيأت لنا الظروف وأسباب الهداية، وهكذا أكثر المسلمين اليوم، فالنفوس لوحدها تقصر وتعجز عن إدراك الإيمان دون توفيق الله، ولهذا كان هتاف الصحابة الكرام في حفر الخندق «والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا» وقال تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ـ الحجرات: 17) فلا يظن ظان أن نفسه تريد له الرشد والصلاح، فلولا أن الله حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكرّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، لما اهتدى لطريق الرشاد، فمن أرشده الله للحق وهداه فليحمد الله.
ومن فضله سبحانه جعل لنا العقول نستعين بها على معرفة الحق من الباطل، والهدى من الضلالة والخير من الشر، كما قال سبحانه: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا)، وقال تعالى: (وهديناه النجدين ـ البلد: 10)
وقال تعالى: (وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ـ غافر: 38)، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «يا شداد بن أوس! إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة، فأكثر من هؤلاء الكلمات: اللهم، إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، ولسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب»
الإرشاد باب من أبواب الدعوة إلى الحق، ووسيلة من وسائلها، وكل ما في هذا المعنى يدخل تحت مسمى الإرشاد، فالله سبحانه أرشدنا في القرآن الكريم، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم من بيان التوحيد والإيمان، والشريعة وأحكامها، ومصالح الدنيا والآخرة، يكون من عالم إلى من هو دونه.
وقد عرف علماء الشريعة أن الإرشاد دلالة الغير إلى الحق، ودلالة على الطريق المستقيم وتعريفه به.
ويدخل تحت المسمى إرشاد الأبوين لأبنائهم، والمعلم في مدرسته، والخطيب في مسجده، والطبيب مع مصحته، والقائد في معسكره، والراقي مع المرقى، والحاكم مع المحكومين وما الدروس والخطب والوصايا والأمثال والرسائل والكتب والنصائح والمواعظ إلا تدخل في باب الإرشاد.
ومما علم به رسول الله صلى الله عليه وسلم الحصين والد عمران بن الحصين قبل إسلامه في الجاهلية بعد أن أراد الانصراف. عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا محمد! عبد المطلب خير لقومه منك كان يطعمهم الكبد والسنام وأنت تنحرهم، فقال له ما شاء الله، فلما أراد أن ينصرف قال: ما أقول؟ قال: «قل: اللهم قني شر نفسي واعزم لي على أرشد أمري»، فانطلق الرجل ولم يكن أسلم وقال: يا رسول الله إني أتيتك فقلت: علمني فقلت: «اللهم قني شر نفسي واعزم لي على أرشد أمري»، فما أقول الآن حين أسلمت؟ قال: «قل: اللهم قني شر نفسي واعزم لي على أرشد أمري، اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت وما أخطأت وما عمدت وما جهلت» صحيح أخرجه أحمد بن حنبل وغيره.
قوله: «واعزم لي على أرشد أمري»، العزيمة: عقد القلب على إمضاء الأمر، فإن أصل العزم هو: الجد والصبر كما قال الله تعالى: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ـ الأحقاف: 34). فإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعو أن يقيه شر النفس، لأنها أحد منابع الشر، فإن شر النفس يولد الأعمال الشريرة، والذنوب الكبيرة، كما قال تعالى: (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ـ يوسف: 53).
في قوله: «واعزم لي على أرشد أمري»، هنا سأل العزيمة على الرشد، لأنها مبدأ الخير، فإن الإنسان قد يعلم الرشد، ولكن ليس له عزم، فإذا عزم على فعله، فقد أفلح وفاز، العزيمة عقد القلب على الفعل وإمضاء الأمر، واستجماع قوى الإرادة على الفعل، ولا قدرة للعبد على ذلك إلا بالله، ولهذا يسأل العبد ربه أن يمضي قلبه وقصده وإرادته إلى الطاعة وصلاح أمره ويسأله أن يصلح شأنه كله ولا يكله إلى نفسه طرفة عين، فالعبد يطلب من ربه التوفيق لأفضل السبل الموصلة لصلاح أمره وشأنه كله في الدنيا والآخرة، حتى يفوز برضاه، لأن الطريق للآخرة طويل، وقطاع الطرق كثر، فهو يحتاج إلى معين ولا معين إلا الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، والعبد المؤمن محتاج إلى ربه دائما وأبدا.
إذا لم يعنك الله فيما ترومه
فليس لمخلوق إليه سبيل
وإن هو لم ينصرك لم تلق ناصرا
وإن عز أنصار وجل قبيل
وإن هو لم يرشدك في كل مسلك
ضللت ولو أنّ السِّماكَ دليل
والعزم نوعان:
1 ـ عزم في الدخول للهدى الرشاد.
2 ـ عزم على الاستمرار والدوام والثبات على الهدى بعد الدخول فيه، ولهذا سمى الله سبحانه خواص الرسل «أولي العزم»، لأن حياتهم طالت مع أقوامهم.
وكل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم هدفها إرشاد الناس إلى الهدى منها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال «من قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا أحد عمل أكثر من ذلك» رواه البخاري (3293).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» رواه البخاري (1901).
الهداية نوعان:
٭ الأول: هداية دلالة وارشاد كمال قال الله: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ـ الإنسان: 3).
٭ الثاني: هداية توفيق وهذه الهداية بيد الله سبحانه وحده كما قال تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ـ القصص: 56)، والافتقار إليه في طلب الهداية التي هي أصل سعادة الدارين.
ومن أراد نيل الهداية فعليه بأربعة مسائل: جهاد النفس وجهاد الهوى وجهاد الشيطان وجهاد الدنيا فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه.
والعاقل من يسأل ربه الهدايتين، والله الهادي إلى سواء السبيل، فباب الإرشاد إلى الخير كبير، والعاقل من يلج هذا الباب.
بصرتني باب رشد كنت أجهله
لو كنت أعرفه ما فاتني الباب