- الطبطبائي: الآية تعتبر مثالاً لإقامة نظام تشريعي متكامل لتنظيم معاملات الناس
- الكندري: القرآن الكريم اتفق مع الشرع في كتابة الدّيْن واستثنى الشهود العدول
أطول آية في القرآن الكريم آية الدّيْن، تأمر المسلمين بكتابة الدّيْن لضمان الحقوق، ووضعت الآية قواعد توثيق المعاملات وصيانة الحقوق وحفظ الأموال التي جعلها الله قياما للناس، وتحدثت الآية عن آداب الدين والمعاملات التجارية، خاصة فيما يتعلق بالديون، فهل القوانين الوضعية التي تحكم مجتمعنا الحالي تتوافق مع ما جاء في آية الدين من ضوابط وأحكام؟ وماذا يقول رجال الشرع والقانون؟
في البداية يقول د.السيد محمد الطبطبائي: آية الدين تنظم قضية الديون بين العباد، فتؤكد ضرورة أن يكون هناك كاتب بالعدل بين الطرفين الدائن والمدين، كما اشترطت ان الذي يملي على الكاتب هو الذي عليه الحق حتى يعترف بما عليه، ثم وضحت الآية أن المدين إذا كان لا يستطيع ان يملي لأنه صغيرا أو ليس راشدا وله ولي فهذا الولي هو الذي يملي، وايضا يحافظ على ان يملي بالحق والعدل وتأكيدا لضمان الحقوق طلبت الآية أن يكون هناك شهود وهم رجلان او رجل وامرأتان، وختمت الآية على الشهود ألا يكتموا الشهادة عندما يطلبون لها، كما ارشدت الى ضرورة الكتابة فيما قل أو كثر من الديون التي تستحق المطالبة، ولكن لو كان الدين من الأمور التي لا تعد ديونا ويمكن التنازل عنها وهذا من مكارم الاخلاق كمبلغ ضئيل يمكن التسامح فيه فلا حرج من عدم كتابته.
وأكد الطبطبائي أن آية الدين تنظم العلاقات الاقتصادية بين الناس تنظيما يحافظ على حقوق العباد، وهي آخر ما نزل من القرآن الكريم، وما يؤكد ذلك أن آخر وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، كانت التأكيد على حرمة الدماء والأموال، فالقرآن الكريم والسنة النبوية يتفقان معا من أجل الحفاظ على حقوق العباد لأنها أخطر قضية في قضايا التعامل الإنساني، والدليل على ذلك أن التوبة من حقوق العباد لا يكفي فيها الندم ولا الاكثار من العمل الصالح بل لابد من رد الحقوق لأصحابها أو مسامحتهم فيها.
مندوب
أما ما ورد في آية الديْن على الرغم من أنه ورد بصيغة الأمر، فيوضحه د.الطبطبائي بقوله: كما يقول العلماء إلا أن جمهورهم يرى أنه للندب وللاستحباب وارشاد المسلمين الى طريقة حفظ الحقوق لأهلها، الا ما ورد في هذه الآية يعد واجبا متى كان الدين كبيرا، لأن من يهمل كتابة دين او معاملة بمال كبير يعتبره الاسلام مقصرا، أما المعاملات العادية والتي تقل قيمتها يندب الاسلام الى كتابتها ولا يكون ذلك واجبا، لأن الاسلام يحتاط ايضا في شهادة الشهود فيشترط الا يشهد سوى العدول من الناس في قوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) كما يدعو إلى تطهير الشهادة على الحقوق من كل زور أو كذب فيقول تعالى: (وأقيموا الشهادة لله) ويقول ايضا: (اعدلوا هو أقرب للتقوى) ويمنع الانسان من ان ينكر الشهادة او يرفضها بقوله تعالى: (ولا تكتموا الشهادة).
وبسؤالنا: لماذا استثنى القرآن من الكتابة الأعمال التجارية في قوله عز وجل: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) اجاب د.الطبطبائي بقوله: ان هذا الاستثناء يدل على حكمة الشرع ومرونته، فالأعمال التجارية لها طرق ميسرة في الاثبات لأن التجارة في الاسلام تقوم على الثقة الكاملة والأمانة ولأنها تحتاج الى السرعة في اقتضاء الحقوق ولكثرة وقوعها بين الناس.
رفع الحرج
وعن رأيه في بعض الناس التي تجد حرجا في كتابة الدين خاصة بين الأهل والأقارب قال: قال الله تعالى: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله) وفي هذا ترفع عن الحرج عن الأقارب والأصدقاء طالما أن هذا شرع الله فلا تمنعنا القرابة والصداقة من كتابته، وقد علل القرآن ذلك بقوله تعالى: (ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا) خاصة اننا نجد كثيرا من المنازعات بين ذوي الأرحام تحدث نتيجة التساهل في كتابة الديون، مؤكدا أن آية الدين تعتبر مثالا للآيات العديدة التي حفل بها القرآن الكريم والتي تقيم نظاما تشريعيا متكاملا في تنظيم معاملات الناس.
القانون الوضعيوحول اتفاق القانون الوضعي مع أمر الشارع عزّ وجلّ في ضرورة كتابة الدين وأخذ القانون بشهادة الشهود العدول في إثبات الدين؟ أوضح ذلك المحامي عبدالله الكندري بقوله: خص المشرع الوضعي الباب الثالث من القانون رقم 39 لسنة 1980 بشأن الإثبات في المواد المدنية والتجارية بعنوان شهادة الشهود على انها احدى وسائل إثبات الحقوق في المنازعات بين الأفراد، وقد شمل هذا الباب من قانون الإثبات الحالات التي يجوز فيها الإثبات بشهادة الشهود وكيفية ذلك الإثبات والضوابط المحددة له، وقد فرق المشرع الوضعي في الإثبات بشهادة الشهود بين المنازعات التجارية التي يحكمها قانون التجارة والمنازعات المدنية التي يحكمها القانون المدني، فجعل المشرع الأصل في المنازعات التجارية جواز الإثبات بشهادة الشهود في إثبات التصرفات والديون وجودا وانقضاء ايا كانت قيمة هذه التصرفات، وذلك نظرا لطبيعة المعاملات التجارية، فنصت المادة 39 من قانون الإثبات رقم 39 لسنة 1980 على أنه «في غير المواد التجارية إذا كان التصرف يزيد قيمته على خمسة آلاف دينار او كان غير محدد القيمة فلا تجوز لشهادة الشهود في إثبات وجوده او انقضائه ما لم يوجد اتفاق او نص يقضي بغير ذلك».
شهادة الشهود
وزاد: وجعل المشرع الأصل في المعاملات المدنية طبقا لنص المادة السابقة هو الكتابة فيما يزيد على خمسة آلاف دينار او غير محدد القيمة فلا تجوز شهادة الشهود في اثبات وجوده او انقضائه ما لم يوجد اتفاق او نص يقضي بغير ذلك.
وعن الحالات التي قيدها المشرع الإثبات بشهادة الشهود في المعاملات المدنية حتى ولو لم تزد القيمة على خمسة آلاف دينار، ذكر الكندري تلك الحالات بقوله: أولا: فيما يخالف او يجاوز ما اشتمل عليه دليل كتابي. ثانيا: اذا كان المطلوب هو الباقي او جزء من حق لا يجوز إثباته إلا بالكتابة اي ان قيمته الاصلية تزيد على خمسة آلاف دينار، والثالث: اذا طالب احد الخصوم في الدعوى بما تزيد قيمته على خمسة آلاف دينار ثم عدل طلبه الى ما لا يزيد على هذه القيمة.
استثناء
وبين الكندري ان المشرع أورد استثناء عاما في المعاملات المدنية فجعل شهادة الشهود جائزة في المعاملات المدنية التي تزيد على خمسة آلاف دينار، ولا يجوز اثباتها الا بالكتابة في حالة اذا وجد مبدأ ثبوت الكتابة. وقال الكندري: يعتبر مبدأ ثبوت الكتابة كل كتابة تصدر من الخصم ويكون من شأنها ان تجعل وجود التصرف المدعى به قريب الاحتمال.
وكذلك اذا وجد مانع ادبي يحول دون الحصول على دليل كتابي (المعاملات الأسرية مثلا)، وإذا فقد الدائن سنده الكتابي بسبب اجنبي لا يد له فيه. وأكد الكندري ان الشرع والقانون قد اتفقا تقريبا بالنسبة لأحكام آية الدين انه وإن كان ظاهر الآية في بدايتها النص على الكتابة إلا أن الآية قد اخذت بشهادة الشهود في الإثبات وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، كما ان الآية استثنت المعاملات التجارية بقوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم - البقرة: 282).